Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

يحدث في تونس: أزمة أم انتفاضة أم ثورة

 

 

يحدث في تونس: أزمة أم انتفاضة أم ثورة

المصطلح والواقع : من يصحح ماذا؟

 

لم يمض عل الاحتجاجات الاجتماعية في تونس شهر إلا وتعالت رؤى هامة ومكثفة حول قراءة الأحداث والتعليق عليها ومتابعتها واستعملت في ذلك عدة اصطلاحات لتفسير الاحتجاجات والتعبير عنها وقد ظهرت في إطار ذلك مصطلحات مثل الأزمة ومثل الانتفاضة ومثل الثورة . فكيف يمكن أن نفهم هذا الإستعمال على ضوء الأحداث المتسارعة والمتتالية وتداعيات الواقع؟ وهل أن ما يحدث في تونس هو أزمة أم انتفاضة أم ثورة؟ وهل أن المصطلح هو الذي يصوغ الواقع أم أن الواقع هو الذي يحدد ملامح المصطلح؟

إن التعبير عن الحدث يعني اخراجه من موضع الحدوث إلى موضع التمثل وعادة ما تكون اللغة هي الأداة المستعملة في ذلك وتحمل اللغة مستويات من التجريد تصل إلى حد المصطلح فالمفهوم، الذي يعكس إدراكا ووعيا لا فقط بشيئ بعينه حدث على أرض الواقع بل بمجموعة من الأشياء ذات العلاقة مع بعضها البعض سببيا و منطقيا وتراتبيا. وهذا يعني أن المصطلح هو اختزال للواقع المركب يستعمل في مجال التواصل بهدف التعاطي مع ذلك الواقع ومخاطبته ونقله ومعالجته. وأثناء هذا التعاطي تتشكل مسارات جدلية بين الواقع والمصطلح لإحداث تغيرات في العناصر والتركيبة والدلالة بحسب الوضعية المعنية وإحداثياتها الخاصة في كل مرة.

        لذلك فإن المصطلح ليس الواقع في ذاته وإنما ما حمله ناقلوه من إدراك لذلك الواقع وهذا ما يفسر الاختلاف في الاستعمال الاصطلاحي والمفهومي. ولكن كيف نفهم هذا الاختلاف على أرض الواقع؟

        تتنوع الاستعمالات للمصطلحات المستحدثة على اثر اندلاع الأحداث بسيدي بوزيد بحسب الموقع من السلطة السياسية . فالسلطة في تونس والأطراف المناصرة لها والمدعمة تتبنى مقولة الإحتجاج والمطالب الشرعية لدى الفئات الشبابية الحاملة للشهائد العليا. ولم يتبلور هذا الموقف إلا بشكل متأخر نسبيا بعد إندلاع الأحداث، ورافقه تشكيك في جديته وفي عمقه واعتبر أن من يدعمه ويحرض عليه هي وسائل اعلام أجنبية ومنها الجزيرة كما تحركه أياد خارجية لها عداوة معروفة مع النظام التونسي ولا تعترف بمعجزته الاقتصادية. ولئن تتفهم السلطة شرعية المطالب الاحتجاجية إلا أنها ترى أنها ستتعامل بحزم مع منظميها الذين وصفوا بالعصابات الملثمة والمأجورين الذين يقومون بعمل إرهابي والمتطرفين. فكانت حصيلة هذا الحزم الذي ورد في خطاب رئيس الدولة المخلوع مرتين في الخطاب الواحد ، بلغت، إلى حدود سبعة وعشرين يوما من شرارة الانطلاق، أكثر من 90 قتيلا في صفوف المحتجين.

ونقصد هنا الأطراف المعنية بهذا المصطلح فهي إضافة إلى أعضاء الحكومة السابقة التي تمثل الحزب الحاكم ، وإضافة إلى الأحزاب الكرتونية، نجد بعض الأطراف الداخلية مثل بعض المنظمات الوطنية ومجلس المستشارين واتحاد منظمات الشباب والاتحاد العام التونسي للشغل (فقط في بداية الأحداث) واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد المرأة التي قدمت جميعها تعبيرات متماثلة نقلتها وسائل الإعلام "الوطنية" بشكل مكثف في شكل حملة دعائية ودعائية مضادة لتكريس تلك المصطلحات والمفاهيم التي اختارتها للتعبير عن الواقع.

وتتوافق أطراف أخرى مع هذا الاستعمال الاصطلاحي لكنها تخالفها في الجانب الإجرائي للمعالجة ويمكن أن نضع على هذا المستوى كل من الأطراف الرسمية الخارجية ومنها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي الذين قدموا لوما خفيفا مداره الاستعمال المفرط للقوة في التعامل مع الاحتجاجات كان أكثره حدة استدعاء السفير التونسي لدى . وقد رافق هذا التعبير الاصطلاحي كثير من الصمت لدى أصدقاء تونس في الخارج ومراقبة دقيقة لتطورات الأوضاع في الداخل.

الاستعمال الاصطلاحي الآخر هو الثورة ، وقد انتشر لدى النقابات الجهوية للإتحاد العام التونسي للشغل والأطراف المعارضة للسلطة بشكل راديكالي بالداخل والخارج كما تواتر لدى مجموعة هامة من المقالات الصحفية والإعلامية الخارجية الغربية والعربية (ثورة اجتماعية يمكن أن تتحول إلى ثورة سياسية: فرنسا2)، والدليل على ذلك هو الاستمرار في الزمان والانتشار في المكان إضافة إلى الشعارات المرفوعة أثناء المسيرات الشعبية التي راوحت بين المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ويتأسس بطبعة الحال على هذا الاستعمال الاصطلاحي للثورة المطالبة بالقيام بمراجعات جذرية ونوعية في الواقع السياسي والاقتصادي والإعلامي والاجتماعي وهي رؤية تنبع من فهم معين لما يقع من الأحداث على أرض الواقع.

أما مصطلح الأزمة فيأتي استعماله عرضا في أغلب الأحيان لدى الأطراف الأولى والثانية على حد السواء وتفهم الأزمة على ضوء تقدير نوعية الاحتجاجات أو نوعية الثورة التي يرصدها بحسب ادراكه كل من هذا وذاك.

ولكن بقطع النظر عن ادراكات كل من هذا أو ذاك ورسمه التصنيفي للوقائع، كيف نصنف من وجهة نظر علمية المايحث؟ وما هي أهم عناصر تشكله؟ وأي المصطلحات نستأنس بها للتعبير عن هذا الواقع لفهمه وتفسيره؟

إن المتتبع لحركة الأحداث من الداخل يمكن أي يلاحظ بكل وضوح هذا التطور المفاجئ لما آلت إليه الأمور في غياب تام لأية قراءة فكرية أو سياسية داخلية وخارجية . فالأحداث انطلقت من الداخل من رحم الأزمة الداخلية وأخذت تتشكل وتكتشف نفسها على مر التشكل وأوجدت لها من الآليات المتاحة ما يبلور الحركة وبناءها واستدامتها وقوتها . فهي حركة لم يقع التخطيط لها من قبل السياسيين ولم يرسم معالمها المفكرون وأصحاب الإيديولوجيات والأفكار المتنورة أو الديمقراطية أو غيرها من الأفكار الخارجة عن سياق زمانها ومكانها، بالرغم من أن جميع هؤلاء وأولائك عناصر مكونة لهذا الواقع المتأزم وانخرطوا لاهثين وراء الأحداث.

إن ما حدث في تونس هو الثورة في معناها الكامل حيث الحدة والتناقض والصدام مع كل صور الواقع بظلمه وقهره وتسلطه واستعباده ، إنه تناقض مع كل الأشكال القائمة من نظام سياسي ومن نظام حزبي  ومن نظام بوليسي والذي من مظاهره بن علي والطرابلسية وأمنه الخاص ومن مظاهره التجمع الدستوري الديمقراطي الذي تِؤكد بنايته الشاهقة في قلب العاصمة عزمه على البقاء في تونس إلى قيام الساعة ، ومن مظاهره أيضا الأحزاب الموالية التي تتصدر عنوان الإنتهازية، ومن مظاهره أيضا الأجهزة الأمنية الموازية التي تدربت على خرق نظام الدولة والعمل وفق أجندات خاصة جدا وفق رهانات متشعبة الأطراف داخليا وخارجيا. إنه تناقض أيضا مع الإعلام الرسمي مع ما كان يسمى بقناة تونس سبعة وقناة 21 وقناة حنبعل ونسمة  إضافة إلى الإذاعات التي تحصلت على رخص مشبوهة في هذا الواقع المتأزم ، وهي كلها كانت تروج لتلميع صورة السلطة وتزين للسابع من نوفمبر وتخفي عمدا ما يطمح الشعب حقيقة للوصول إليه.

إن ما حدث في تونس هو الثورة في دلالتها العميقة حيث الانتشار والتوسع، لأن الأحداث لم تنحصر في سيدي بوزيد كما كان في أحداث قفصة أو في أحداث بن قردان ، بل استقبلتها كل مدن التراب التونسي من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وهو استقبال لم يكن بمعنى التعاطف ولم يكن بمعنى المؤازرة وإنما إضافة إلى ذلك  بل وأهم من ذلك هو المعاناة والألم الذي تعيشه الفئات الاجتماعية نتيجة تردي الواقع الإقتصادي والسياسي والإجتماعي. فهذا الواقع المتأزم المولد للثورة لم يكن ليشمل جهة دون أخرى لذلك هبت كل المدن التونسية للثورة وإعلان العصيان والتحدي حيث أن المدن الساحلية والعاصمة إلتحمت بهذه الثورة وطالبت بنفس المطالب التي يدوي صيتها من الشمال إلى الجنوب.

إن ما حدث في تونس هو الثورة حيث القيم الجديدة المناقضة للسائد والقائم، قيم جدية مبنية على ربط القول بالعمل بل ربما تقديم العمل على القول، إنها قيم العدالة الإجتماعية وقيم الحرية وقيم المساواة في الفرص وقيم المحاسبة  الدقيقة وقيم الشفافية التامة . وهي قيم تفصل كليا مع المظاهر السابقة وشعاراتها ورموزها .

إن ما يحدث في تونس هو الثورة حيث الشمولية في مقوماتها، أي أنها شاملة لكل الفئات الإجتماعية ولم تقتصر على فئة دون أخرى وقد أعطت لها صورة الشباب حيويتها وقوتها وبريقها الذي لا ينطفئ. فتشغيل أصحاب الشهادات هو العنوان الأول الذي برزت به هذه الثورة لأن هذه الفئة وصلت إلى مرحلة من النضج الإجتماعي لم تعد تقبل بنظام العلاقات الإقتصادية السائد القائم على المحسوبة والرشوة والتقرب إلى السلطة. إن هذه الفئة بلغت من النضج البنيوي من حيث عددها ومن حيث وعيها ومن حيث اختزالها للأزمة ما تبين لها بوضوح أنها مهددة في وجودها أصلا لأن الروابط القائمة لا تسمح لها بالحراك ولا تسمح لها بأن تتخطى العتبة المحددة لها مسبقا من قبل رؤوس الأموال المتسلطة والمتنفذة بالقانون وغير القانون.

إن ما يحدث في تونس هو الثورة في قوتها وحدتها عملا بمقولة الشابي: إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر، حيث سقط الشهداء الواحد تلو الآخر في كل المناطق والجهات في سيدي بوزيد وفي القصرين وفي قابس وغيرها والقائمة تطول إلى حد كتابة هذا التحليل أثناء الثورة وما قبلها وما بعدها لأن الشهداء هم الذين سقوا بدمائهم روح الثورة وضمن لها بقاءها وشرعيتها ونقاوتها. وقد بررت القوة في آثار ما خلفته التحركات والإحتجاجات والمظاهرات الشعبية الحاشدة والمظاهرات العنيفة والتنظمات الصغرى في الأرياف والمدن التي كسرت جميعها حاجز الخوف من الموت والخوف من السلطة والخوف من العقاب والخوف من التتبعات والخوف من الملاحقات والخوف من الوشاية . احترقت أعمدة النظام القائم إحترقت المقرات الأمنية التي صدت الثورة وقمعتها وكانت العنوان الأهم في نظام السلطة، (شعارات وزارة الداخلية وزارة ارهابية) احترقت مقرات التجمع الدستوري الديمقراطي حيث مقر الخداع والتظليل وغسيل الأدمغة، احترقت مقرات إدارية حيث الظلم والإذلال والتمييز.

إن ما يحدث في تونس هو الثورة حيث الاستمرار والدوام، فلم تكد تقدح الشرارة الأولى حتى استمر لهيبها بشكل متواصل ودون توقف ودون كلل ودون تريث أو احتساب لعطلة أسبوعية أو عطلة مدرسية أو نهاية امتحانات أو غيرها من الأعذار التي تثني الثورة عن امتدادها الطبيعي، إنها ثورة بأتم معنى الكلمة تلاحمت فيها إرادة جميع مكونات المجتمع وفئاته حيث بدت شرارتها بالشهيد محمد البوعزيزي الذي ألهب نفسه وألهب قضية الشعب بأكمله عاطلون وطلبة وتلاميذ وعمال ومثقفون ونقابيون ومحامون وأطباء وجامعيون وغيرهم فلم تتوقف الثورة ولهيبها ولم تنثني العزيمة والإرادة في المضي قدما نحو تحقيق الأهداف. وأثناء ذلك سقطت الدماء وارتفع عدد الشهداء ليصل إلى تسعين شهيدا وألف جريح في كامل أنحاء المدن بالجمهورية.

إنها الثورة بكل تلك المعاني وغيرها - مما سيتبعه من تحاليل ومما يضيق تحليله في الوقت الراهن- حيث المطالب التي تنادي إلى تأسيس الإستقلال الثاني وإلى المناداة بالجمهورية التونسية الثانية المناقضة لنظام الحكم الذي تربع على عرشه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. ومن حث هذه الثورة مثل كل الثورات في أنحاء العالم تطمح إلى الانتقال إلى وضعية جديدة مختلفة عن الوضعية السابقة وأثناء هذا الانتقال تفرز وضعيات جديدة مرافقة لأن الدلالات التي يحملها الفاعلون لم تكن بنفس المستوى ولم تكن بنفس الأفق ولم تكن تسمح بالتناغم وهذا أمر اعتيادي في ظروف الثورة التي خرجت من رحم الأزمة الشاملة ومن رحم خاصيات الأزمة بما كانت تحمله من ممارسات سلبية وأخطاء .

إن هذا التحليل الأولي أوجهه للطبقة السياسية بكل أطيافها وبكل مرجعياتها وبكل خلفياتها حتي تحسن قراءة الوضع وأن ما حدث في تونس ليس بالهين ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يختزل في مجرد حكومة ائتلافية أو حكومة وحدة وطنية يغنم فيها هذا أو ذاك بعض المكاسب الظرفية. إنني أوجه تحليلي لكل النخب حتى تعطي المعنى الحضاري للثورة والمعنى التاريخي للثورة والمعنى الإنساني للثورة. إن ثورتنا يمكن أن تحول وجه التاريخ كما حولته الثورة الفرنسية أو أكثر. إن مقومات ثورتها لها من العمق ما يسمح لها بتأسيس وعي جديد في العالم ووعي جديد في الإقليم ووعي جديد في الأمة يعيد صياغة الواقع من جديد صياغة عالمية انسانية تعطي نفسا جديدا للقيم العالمية.

أيها الشعب التونسي، أيها السياسيون في تونس، أيها النخب في تونس، أيها العالم، انتبهوا لما يحاك للثورة إنتبهوا لأعداء الثورة الذين يبحثون على الفرص ، انتبهوا للقناصة بكل مستوياتهم وأصنافهم ، فالثورة لن تكون ناصعة بكل تلك القيم إذا هرول السياسيون إلى رئيس الحكومة السابق يبينون له مطالبهم، ولن تكون ناصعة إذا ظهرت وجوه سابقة من المشهد السابق.

اقطعوا مع كل ما يمت إلى المشهد السابق، إقطعوا مع أفكاركم المسبقة ، اقطعوا مع أفكاركم الجاهزة، إقطعوا مع عنوان الفساد: التجمع الدستوري الديمقراطي وعنوان الإرتداد إلى الوراء، فكروا  عالميا ، فكروا انسانيا، فكروا استراتيجيا، ولا تخذلوا الثورة ولا تطفئوا لهيبها بما كنتم عليه وما تعودتم عليه وما نشأتم عليه.

إن التحدي أمامنا تاريخي توفرت له كل الضمانات والمقومات لتحيز تلك المرتبة، المرتبة الحضارية والتاريخية والإنسانية والعالمية. ولم يعد إلا أن يتحمل الشعب والنخب مسؤوليتها في ذلك وإلا سنرمى في مزبلة التاريخ. لقد قام الشعب بما هو مطلوب ولا يزال، فهل سترتقي النخب إلى المستوى المطلوب؟

 

 

 

 

 

 

 



17/01/2011
0 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres