Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

صدمة الثورة وانحلال العقد الاجتماعي " الفر

 

صدمة الثورة وانحلال العقد الاجتماعي "الفريد" في تونس


                                   إعداد: محمد الحبيب الخضراوي

                                      14-02-2011  

                           (بمناسبة مرور شهر على الثورة التونسية)

 

 

لم يكد يمر شهر منذ اسقاط النظام السابق في تونس حتى برزت للعيان مظاهر اجتماعية غير معهودة من قبل وظهرت أشكال من التعبيرات والممارسات لا يمكن لنا إلا أن نتوقف عندها بالتحليل والإشارة إلى أهميتها في أثرها على تحديد ملامح التاريخ المعاصر للبلاد التونسية سواء منه التاريخ الاجتماعي أو التاريخ السياسي. لقد أدخل متغير الثورة والمسار الثوري صدمة في البنى الاجتماعية والسياسية القائمة، ونتج عن ذلك تصدع يصل إلى مستوى الإنهيار للتشكلات الاجتماعية والروابط التي تكونت على أساسها وعبرت عن مستوى متقدم من انحلال للعقد الاحتماعي "الفريد" الذي تكون طيلة الفترة المعاصرة من تاريخ تونس وخاصة منذ الاستقلال إلى اليوم. فما هي المظاهر التي تشير إلى تأثير الثورة التونسية على تلك البنى؟ وكيف تراءى هذا الانحلال في العقد الاجتماعي؟ وما هي انعكاسات ذلك على المستقبل القريب والبعيد لتونس؟

 


لنشير في البداية إلى أن قراءة سريعة للتاريخ الحديث والمعاصر للبلاد التونسية تؤكد على أهمية موقع السلطة في بناء الدولة والمجتمع واستدامة بقائهما، حيث كانت السلطة بمثابة المحدد البنيوي للمؤسسات والحراك الاجتماعي واستطاعت أن تكسب إلى جانبها المقومات الاقتصادية والثقافية للبلاد مما أدى إلى ارتهانها جميعا برهان الفاعلين في السلطة وشكلت مع بعضها منظومة مترابطة ومتكاملة في إطار نسقي متميز وفريد.


ونتيجة للمكاسب التي توفرت لهذه المنظومة والتي ألحقتها بدوائرها وخاصة منها تلك الموارد التي تعود إلى الدولة سواء منها الرمزية أو المادية واستعمال المال والقانون والسلط التنفيذية والتسلط الأمني، ونظرا إلى اكتسابها "الشرعية" التاريخية بحكم استمرارها في الزمن محافظة على جوهرها الموحد رغم تعدد التسميات، تمكنت هذه المنظومة من أن تؤسس إلى نوع معين من التدخل في الفعل الاجتماعي حيث تمكنت من  صياغة عقد اجتماعي فريد ناتج عن طبيعة الفعل والممارسة للسلطة ورموزها وأتباعها. وترتبط عناصر هذا العقد وفق ما حددته هذه المنظومة وما كرسته طيلة تاريخ من الممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وبحكم الترابط التفاعلي الذي ينطلق أثره بدءا من رأس السلطة  وحاشيته وبلاطه وقصره، وصولا إلى جميع مستويات البنى الاجتماعية والمؤسسات الناشئة في إطارها ستتأثر هذه الأخيرة وستستجيب بشكل ما  لهذا التأثير بطريقة تجعلها قابلة  للتأقلم مع متطلبات منطق السلطة ومحدثة فيه بعض المتغيرات الأخرى النابعة من صميم رهانات الأطراف وخصوصية  واقعها وتموقعها داخل المجتمع. وعلى ذلك كان المشهد الاجتماعي العام يبدو ظاهريا منسجما ومترابطا ترابط العقد ويؤدي فيه ومن خلاله كل عنصر دورا محددا في إعادة انتاج منظومة السلطة والوظائف التي حددت لها ورسمت لآدائها فنتج عنه عقد فريد ظاهره البريق والترابط يتم التسويق له تحت شعارات المعجزة التونسية والسلم والأمن والاستقرار والتضامن، لكن باطنه أكد أنه ليس من الذهب الخالص وأن روابطه قوامها السلطة والتسلط وأن عمقه مصالح ورهانات فئوية بحتة.

 


ولن نتوقف في هذا المقال على تفسير أسباب الثورة التونسية وإنما سننطلق من المعطى الحدث الذي بمقتضاه تم اسقاط رمز النظام القائم الرئيس المخلوع وحاشيته القريبة (الطرابلسية) يوم 14 جانفي 2011. لقد تجسدت قمة أداء الثورة في الإطاحة بهذا الرمز الذي يجسد منطق الربط بين عناصر المنظومة القائمة. وتوالت انجازات الثورة بعد ذلك متمثلة في رفض كل أشكال إعادة الإنتاج للمنظومة السابقة وأساسا الأجهزة الأمنية الموالية والتجمع الدستوري الديمقراطي، واعتبرت هذه الانجازات قمما أخرى في مسار انجازات الثورة تضاهي في قيمتها الإطاحة بالرئيس المخلوع وتحمل نفس الدلالات الاجتماعية عند الواقع الجديد. ولما أعلن عن انهيارها جميعها بفعل الصدمة التي أحدثتها الثورة ، انحل المنطق الناظم للعقد الفريد وتداعت نتائج هذا الإنحلال على العناصر الاجتماعية المكونة للعقد فكان من أبرز ردة الفعل نشأة حراك اجتماعي جديد انبنى على مخلفات الحراك السابق لكنه يختلف عنه لأنه بصدد التشكل والتكون وبصدد البحث عن منطق جديد وهوية جديدة وبصدد تأسيس دلالة أخرى للروابط الاجتماعية. فما هي المظاهر الاجتماعية المعبرة عن هذا التفكك في روابط البنى القديمة؟

 


إن أبرز ظاهرة تلفت الإنتباه في التشكلات الاجتماعية المحدثة نتيجة الصدمة التي أحدثتها الثورة ما يندرج ضمن ما يسمى بـ" قلبان الفيستة"، أي ذلك التحول المفاجئ للعناصر السائدة سابقا وارتمائها في أحضان الثورة وانخراطها وفق متطلباتها ولكن انطلاقا من واقعها وخصوصياتها لتعمل بذلك على انتاج ممارسات جديدة تطبع بها واقعا إضافيا للثورة وتعمق من تشعبها. والأمثلة على ذلك كثيرة يمكن التوقف عند أهمها من وجهة نظر هذا التحليل:


-        الإعلام الوطني العمومي والخاص: إلى حد 13 جانفي لا تزال تتحدث عن سبعة نوفمبر 02، تلقت هذه المؤسسات الصدمة  ولم تجد لها من مخرج سوى التشكل ومواكبة أحداث الثورة وأسندت البرمجة في الفترة الأولى لا إلى المسؤولين بتلك المؤسسات ولكن عهدت إلى البعض من المنشطين دون برمجة ودون وعي بمتطلبات الدور المستحدث.


-        الأجهزة الأمنية: كانت تلك الأجهزة اليد الطولى للمنظومة السابقة في القمع والترهيب وإسكات الصوت المخالف وفجأة تحولت للتظاهر في الطريق العام لتؤكد أنها بريئة من دماء الشهداء.


-        مجلس النواب ومجلس المستشارين لم نكن نسمع منهما سوى التمجيد للخيارات والعبقرية التونسية التي تصدر قيمها إلى الخارج: (التضامن والسنة الدولية للشباب والمبادرة تونسية..)،  وفجأة شاهدنا عجبا من بعض ممثليها الذين انخرطوا في الثورة داعين إلى عدم الإلتفاف عليها.


-        العمد (جمع عمدة أو الشيخ أو المحرك بتسميات محلية) بتحالفهم المشين مع الشعب(جمع شعبة) الراجعة إلى التجمع الدستوري الديمقراطي كانوا الأدوات الأكثر قهرا للمجتمع المحلي بالرقابة والوشاية والوصاية والتمييز بين المواطنين على أساس الولاء للتجمع وشراء الهمم وحشد المليشيات والتعاون مع الأمن. تحول موقفهم وبرزوا للإعلام معبرين عن صعوبة واقعهم الإقتصادي وأنهم كانوا مهمشين وضحايا السلط الفوقية.


-        الأيمة والوعاظ كانوا يدعون عبر منابرهم إلى الرئيس المخلوع بالبقاء وطول العمر في خدمة وحماية الدين بالبلاد وكانت خطبهم بمثابة الدعاية السياسية للمنظومة السائدة وفجأة اختفى الدعاء لهم وتبرؤوا منه.

 


إن التحول المفاجئ في المواقف بعد 14 جانفي إذا قاربناه في مظهره العام يؤكد بما لا يدع للشك أن المجتمع لم يكن قائما على تلك الروابط التي أسست للعقد الفريد فحسب وإنما كانت تلك الروابط قائمة بواسطة الترهيب والقوة المادية والرمزية التي صاغتها وحاكتها عناصر نظام السلطة ودعمتها الأطراف . فالعقد الاجتماعي لم يكن وليد حركة طبيعية في المجتمع ولم يكن وليد إرادات حرة للفئات الاجتماعية بمختلف اصنافها . كما أنه لم اختيارا إراديا من مجموع العناصر المكونة للمجتمع . لقد استمرت تلك الروابط التي أسست لها السلطة تحت غطاء الدولة والتحديث وحاولت مراوغة عديد الباحثين  لتنتزع بعض الشرعية استنادا إلى شرعية الدولة. وقد نظَر لهذا المنطق عديد الباحثين الذين اعتبروا أن العنف الذي تسلطه الدولة هو ضروري للتحديث العام وضروري لبناء المؤسسات المدعمة للنفوذ وبسطه واكتساح المجال والتحكم في عناصره مركزا وأطرافا.

 


لم يكن الموعد هذه المرة في الفعل التاريخي مع السلطة السياسية ورهاناتها التي   كرستها من خلال الروابط التي أحدثتها أو التي كانت سببا في بثها ورعايتها وتكريسها. وقد كان تاريخ 14 جانفي حدا فاصلا في الفعل التاريخي الذي أعطى المبادرة والأولوية للفعل الاجتماعي كعامل حاسم في تحديد المعيش وتحويل الوجهة، وكثيرا ما كان هذا الفعل في موقع التهميش خارج السياقات الرسمية، وكثيرا ما لحقه الإقصاء والإبعاد وتم تجاهله بشكل منظم ومخطط له وتعويضه بصور منمطة اجتماعيا تخدم مصلحة رهانات المنظومة القائمة سابقا ولم يفسح له المجال للتنظم والظهور لذلك كان هذا الفعل المهمش والتمثلات الحاضنة له أو التي يتأطر ضمنها لا تتجاوز كثيرا دائرة الفرد أو دائرة الأسرة والعائلة أو في أحسن الأحوال دائرة الأصدقاء المقربين أو بعض الزملاء في المهنة أو أثناء الوقت الحر. ولم يجد هذا الفعل الاجتماعي اسنادا من مقومات الدولة سوى بعض الأصوات القلية ضمن المعارضة الراديكالية أو مدافعي حقوق الإنسان حيث كان ينظر إليه على أنه عدو للدولة ومهدد للإستقرار والسلم الاجتماعيين.

 


لقد عبرت الثورة عن إرادة الفعل الاجتماعي باعتبارها إرادة الشعب في رفض النظام السابق و السائد والروابط التي أسس لها. ولما تداعت تلك الروابط القائمة ورموزها ومن يضمن لها الحماية، وجد المجتمع نفسه أمام وضع جديد غير معهود، وضع غابت فيه المرجعيات السابقة وأشكال التأطير السائدة وفقدت الإدارات والمؤسسات الكثير من مشروعيتها ، فغابت الثقة التي أسست للـ"إستقرار" أكثر مما أسست للحقوق والعدالة، وانتهت الوضعية إلى مجتمع عار من كل أشكال التنظم الملزمة المثقلة لحركة الفعل والمال والحياة.

 


وفي مقابل هذا الإفراغ والتعري اشتغلت الأشكال الاجتماعية الأولية لحماية الذات من مخاطر التهديدات المحيطة وعاد الفرد إلى البحث عن الصيغ التي يثبت بها ذاته ويثبت بها مشروعيته ويثبت بها موقع قدم يعبر به ومن خلاله عن حقه في الوجود والإستمرار . ولعل الظواهر التي برزت في إطار حماية الأسرة وحماية الحي وحماية الجهة وحماية القبيلة تعود إلى هذه الرغبة في تأكيد الذات وتأسيس مشروعيتها الجديدة. لقد وجدت هذه النزعات الفردية والأسرية والجهوية والقبلية مجالا خصبا لاستعادة البروز بعد انحلال العقد الاجتماعي الفريد. لقد أسقط المعتصمون أمام ساحة القصبة كل الروابط السائدة ورموزها فلم تعد الوزارة الأولى تحت ذلك المسمى بل أصبحت "وزارة الشعب" بحسب تعبير المعتصمين، ولكن من هو الشعب بالنسبة إليهم إنها وزارة سبيطلة والمزونة ووزارة الفراشيش والهمامة وأولاد عيار وأولاد بن عون وأحرار جبنيانة وجلمة وسيدي بوزيد والمكناسي والقصرين وقفصة وفريانة والمتلوي وتطاوين وبنقردان وسيدي علي بن نصر الله  وغيرها من الكتابات التي دونها المعتصمون على جدران محيط القصبة.

 


ومثلما احتل المعتصمون ساحة القصبة ، احتل كذلك الشباب في المدن الأحياء السكنية وثبتوا سيطرتهم الكاملة عل مجالاتها فأقاموا الحواجز ونظموا دفاعات نوعية لحماية الحي (المنازل والأسر والممتلكات والدكاكين...) وابتكروا في ذلك أشكال عدة معبرين بها عن فتوة وشهامة أصيلة في حفظ العرض والمال.


لقد تواصلت الديناميكية الاجتماعية للبحث عن المرجعيات المشتركة والاحتماء بها من الأخطار ولوحظ في هذا الإطار أشكال من التنظم الذاتي للمواطن في شكل طوابير أمام المخابز وتسامح ودي بين مستعملي السيارات في الطريق كما تشكلت فرق متطوعة لرفع الفواضل المنزلية وتنظيف الشوارع، كما لوحظت الرغبة في بعث الجمعيات المدنية التي تعنى بتطوير الوعي الاجتماعي والمدني والسياسي لدى المواطن من أجل بناء ثقافة العيش المشترك.

 


إن جميع هذه الممارسات التلقائية هي ممارسات أولية كان الهدف من ورائها بالأساس حماية الذات وتأمين الحد الأدنى من البقاء والاستمرار وهي مبادرات نابعة من الحاجة الاجتماعية للعيش المدني ولم تكن التنظيمات السياسية بشكل عام قادرة على القيام بهذا الدور وتأمين الوظائف المطلوبة لأنها ببساطة لم تكن مؤهلة لذلك أو أنها كانت تعزف على إيقاع آخر لم يكن المدخل المناسب لإيقاظ إرادة الشعب، ولم تستطع أن تتجاوز سياج الأسلاك الشائكة التي أحاطتها بها السلطة السياسية حتى أن أغلبها تماهى مع منظومتها واعتبر جزء منها أو الوجه الآخر لها.

 


وتواصل الأداء الهامشي للأحزاب والتنظيمات السياسية بعد 14 جانفي بل ضاعف من تشتيت المرجعيات فانخرط بعض تلك القوى في الحكومة المؤقتة الأولى والثانية واهتم بعض آخر بلملمة جراحه وأطلق البعض الآخر العنان للصراع الإيديولوجي إحياء للماضي الذي كان وصمة النكسة لتلك القوى السياسية مما ساهم بوعي أو بغير وعي في تعميق ضبابية الرؤية بعد انحلال العقد الاجتماعي وأحدث خلطا في الأوراق بين القديم والجديد بين الاصلاح والتغيير بين الاحتجاج والثورة ولم تستطع القوى السياسية الإتفاق على تكوين جبهة موحدة لحماية الثورة والتعبير عن تطلعاتها وتوجيه مطالبها وتحديد أهدافها بالرغم من بعض المحاولات الجهوية ومحاولة تكتل 14 جانفي. ولا يزال هذا المطلب المرجعي الرمزي للثورة قائما وملحا في الفعل السياسي والاجتماعي لأنه من أهم العناصر المساعدة على البناء والانتقال إلى المراحل الموالية من استثمار نتائج الثورة. هذا المسار المحلي للثورة التونسية هو مسار متميز عن مسارات الثورة في مصر التي تتوفر على أرضية اجتماعية فيها قدر من عناصر الاستقرار الاجتماعي الذي بنته التنظيمات الاجتماعية والسياسية نتيجة هامش الحرية الذي توفر قبل اسقاط نظام حسني مبارك وتمكنت من توظيفه لمقاومة عمليات الترهيب والبلطجة من ناحية وتشكيل جبهة سياسية لتحديد متطلبات المراحل المقبلة من ناحية أخرى بعد تنحي رمز السلطة.

 


وعلى ذلك فما يمكن رصده في مسارات الثورة التونسية إلى حد الراهن التاريخي الاجتماعي ، أنه كلما تعمق انحلال العقد الاجتماعي السابق كلما تعمقت الرغبة في البحث عن الهوية الجديدة والمرجعيات الفردية والمشتركة والعمل على تثبيت مشروعيات نابعة من التمثلات المستحدثة للموقع والدور . وأعتبر أن ظاهرة المطلبية الكاسحة التي نشهدها في هذه الأيام تندرج ضمن هذا السياق ، سياق البحث عن الهوية الجديدة ، الهوية المبنية على الموقع المنتظر والدور الملائم لها اجتماعيا. لقد هرولت مجموعة هامة من الفئات الاجتماعية لتقدم طلباتها بعد انهيار العقد، ولتؤكد أنها كانت ضحية الروابط السابقة وأنها في حاجة إلى المساعدة وإلى إعادة التموقع في المشهد الاقتصادي والاجتماعي الجديد، واتخذت هذه المطلبية عدة أشكال منها التظاهر ومنها الإعتصام ومنها الإضراب ومنها الاحتجاج ومنها التجمع أمام مقرات الوزارات ومقرات الولايات ومنها تقديم المطلب ومنها التشكي والتظلم بالقانون ومنها التعبير عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ومنها الهجرة السرية ومنها الحوز المباشر ووضع اليد بالقوة على ما يراه المطالب حقا مشروعا ومنها الإنتصاب للحساب الخاص في الفضاءات الممنوعة سابقا ومنها أيضا حرق المقرات إدارية كانت أو أمنية تعبيرا عن الاحتجاج الصارخ وغيرها من المطالب الناشئة خلال هذه الفترة.

 


لقد توفر المشهد الاجتماعي بعد 14 جانفي على أرضية غير مستقرة انحلت فيها الروابط القديمة لكنها كانت قابلة للتشكل السريع، أرضية احتمت بالمؤسسات الأولية وبالعودة إلى الأطر الضيقة بحثا عن الأمن وتأمين الذات لتعبر عن بذلك عن استراتيجية أولية-وقتية في التعاطي مع الواقع في انتظار توفر متغيرات أخرى تساهم في دفع تشكلات اجتماعية جديدة للتمظهر . وعلى هذا التحليل يمكن أن نفهم انتشار الإشاعة في هذه الفترة وكثرة رواجها وسرعة انتقالها وقدرتها على التأثير والتحول إلى الفعل . فالأرضية الاجتماعية مهيأة للإشاعة لأن هناك حاجة متأكدة لبناء مواقف فردية واجتماعية دفاعية وتعتبر المعلومات والأحداث جزء هاما في عملية البناء ، ولكن بقدر ما يكون المجتمع مهيأ لإشاعة الإشاعة فإنه أيضا لديه استعدادات لدحضها  ومقاومتها والتصدي للأطراف التي لها مصلحة في ذلك- وهذا ما تبيناه في أحداث الكاف- لأن الثورة هيأت المجتمع وعملت على تأطيره وفق اتجاهات عامة ومشتركة استقرت في المخيال الجمعي وحافظت على نوع من الثبات بحكم قوة أثر الأحداث وطبيعتها أثناء الثورة ومساراتها السابقة واللاحقة.

 


إن ظاهرة " قلبان الفيستة" أو التحول المفاجئ في المواقف وظاهرة المطلبية وظاهرة الإشاعة هي جميعها بحسب هذا التحليل تعبر عن رغبة لدافعية اجتماعية جامعة في اتجاه بناء تشكلات جديدة وفق أدوار ومواقع مستحدثة نتيجة أثر الصدمة التي أحدثتها الثورة في الروابط السائدة سابقا وهي صدمة قوية بمكان بحيث استطاعت أن تخترقها وترجها في الصميم ودفعت لإعادة انتاج تشكلات جديدة ومخالفة لما كان الأمر عيه من قبل لأن شرعية الثورة من شرعية تغيير البنى الاجتماعية السائدة والروابط المنتجة في إطارها ومن شرعية انتاج عقد اجتماعي آخر فريد قائم على إرادة الشعب واستجابة القدر. والثورة لا تكون كذالك إلا لكونها قادرة على أن تفعل ذلك.

 


 

                                             إعداد: محمد الحبيب الخضراوي: أستاذ العلوم الثقافية بالجامعة التونسية

                                          14-02-2011

                                       (بمناسبة مرور شهر على الثورة التونسية)

 

 

 



15/02/2011
0 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres