Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

حكومة وحدة وطنية أم حكومة إنقاذ وطني

 

 

 

حكومة وحدة وطنية أم حكومة إنقاذ وطني


اختلف الشارع التونسي في تحديد متطلبات الحياة السياسية بعد الإطاحة بالرئيس بن علي فتعالت عدة أصوات تنادي بالتحرك الفوري لمعالجة متطلبات إدارة شؤون الحياة اليومية وتصريف الأعمال حتى لا يتعطل السير العادي للحياة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن، وفي نفس الوقت برزت على الساحة السياسية رؤى مختلفة لتحديد الأولويات في إدارة العمل السياسي. وتتوزع جميع هذه الأراء إلى صنفين أساسيين:


الصنف الأول يطالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية وقد انخرط في هذا المطلب بكل جدية:

1-    التجمع الدستوري الديمقراطي من خلال مجموعة هامة من رموزه التي تقلدت مناصب كبيرة في عهد بن علي وكانت تنظر للمشهد السياسي إضافة إلى الوزير الأول محمد الغنوشي وزير الحكومة السابق وفؤاد المبزع رئيس الدولة المؤقت ورئيس مجلس النواب سابقا الذين أعلنا استقالتهما من التجمع عملا بمبدأ فصل الدولة عن الأحزاب.

2-    الأحزاب التي كانت قائمة أثناء النظام السياسي القديم ولها مقاعد بمجلس النواب

3-    بعض الأحزاب الراديكالية التي كانت معارضة بشدة للنظام السابق التي وجدت في هذه الحكومة مدخلا هاما لتحقيق الأهداف الوطنية

4-    الإتحاد العام التونسي للشغل الذي انخرط بجدية في الفترة الأخيرة في قيادة التحركات الشعبية


وتعكس تركيبة الحكومة المعلن عنها بعد الإطاحة ببن علي توافق هذه الأطراف على مطلب حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة لتحقيق أهداف المرحلة وإيصال تونس إلى بر الأمان سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. وليس من الضروري أن يقع تمثيل كل الأطراف في هذه الحكومة لأن صوتهم سيصل من خلال الأعضاء الحاضرين. وقد استفرد التجمع الدستوري الديمقراطي بنصيب الأسد في عدد ممثلي هذه الحكومة الوطنية المؤقتة وحافظ على وزارات السيادة الأساسية.

ولئن اتفق الفاعلون داخل هذا الصنف على المسمى العام لهذا المحتوى إلا أنه من الممكن أن نجد تباينا كبيرا في استراتيجيات الفاعلين حسب كل حزب أو فاعل أو طرف ويبدو أن التجمع هو المستفيد الأكبر من هذه التركيبة عدديا ورمزيا لأن ذلك يسمح له باستعادة زمام المبادرة والتنظم وإعادة ترتيب البيت بما يملكه من امكانيات مادية وبشرية وما يتوفر عليه من قدرات لوجستية وشبكة علاقات تأسست على المدى الطويل وفق منطق آداء وأسلوب خاص به.

 

الصنف الثاني يطالب بتشكيل حكومة إنقاذ وطني وقد انخرط في هذه المطالب بكل جدية:

1-    المحامون الذين كانوا في طليعة التنظيمات المساندة لمطالب التحركات الاحتجاجية

2-    ما تبقى من الأحزاب  والمنظمات الراديكالية المناهضة للنظام السابق بتعبيراتها المتنوعة

3-    مجموعة هامة من الجامعيين والمثقفين الذين عبروا بأشكال مختلفة عن رفضهم للحكومة المعلن عنها.

4-    مجموعة هامة من الفئات القاعدية والقيادية الجهوية والوطنية بالإتحاد العام التونسي للشغل.

5-    مجموعات هامة من الفئات الاجتماعية التي واصلت المظاهرات والاحتجاجات اليومية بكامل مدن الجمهورية.


لقد نشأ تباين واضح في الأراء نتيجة الحراك السياسي ذي النسق المتسارع الذي صبغ المرحلة الراهنة وهو تباين توزع على صياغتين أو مقولتين مركزيتين وهما : حكومة وحدة وطنية من جانب أول وحكومة إنقاذ وطني من جانب ثاني. إلا أن التصنيف الذي عرضناه هو تصنيف مؤقت أيضا لم يلبث إلا ليتغير لأن الواقع لا يزال بصدد التشكل ولا تزال القراءات تراجع نفسها وتصحح على ضوء المتغيرات الجديدة المحدثة حيث برزت في هذا الإطار مواقف جديدة وخاصة من قبل الإتحاد العام التونسي للشغل الذي قرر الإنسحاب من حكومة الوحدة الوطنية معتبرا إياها غير مؤهلة بتركيبتها تلك على قيادة المطالب الوطنية، كما عبرت بعض الأحزاب عن انسحابها وعبر بعضها الآخر عن احترازات في علاقة الأسماء الموجودة بالمنظومة القديمة وقررت مراجعة موقفها إن لم يتم الفصل نهائيا في ذلك. ولا تزال المراجعات قائمة وواردة لدى أطراف هذا الصنف أو ذاك في الهياكل القيادية والقاعدية على السواء وهو حراك طبيعي ينبع من رؤى وتحاليل لما يحدث على أرض الواقع ولما هو مطلوب في المراحل المستقبلية القريبة والبعيدة المنظور.

إلا أنه من المهم أن أبين من وجهة نظري الإختلاف بين التركيبتين وبين الإستعمال الاصطلاحي لكل موقف على حدة لأن الإختلاف في الاستعمال يخفي إختلافا في الرؤية وفي التدخل لمعالجة المشاكل القائمة.


أشير أولا إلى أن المتتبع لتطور أحداث الثورة التونسية يلاحظ أنه من أهم مقوماتها هي الوحدة فهذه الثورة وحدت الشعب التونسي حول مطالب أساسية أجمع عليها التونسيون ولم تبرز خلالها أية مطالب سياسية للون سياسي دون آخر ، بل أن هذه الثورة كان لها من الذكاء العملي ما سمح لها من الإنفلات من قبضة أقوى الأنظمة البوليسية في المنطقة لأنها لم تصطبغ بلون ولا بقيادة ذات لون بل انصهرت جميع الألوان في المطالبة بقضايا اجتماعية فاقتصادية فسياسية دون ربطها بهذا أو بذاك، وأعتقد أنه لو كانت الثورة خلافا لذلك لاستطاع النظام القديم وأدها واستئصالها لأنه كان متوثبا ويقظا ومستنفرا لإدانة وتوريط أي طرف يتزعم الثورة وقد حاول ذلك منذ الأول باستعماله لمصطلحات مثل الإرهابيين والمتطرفين والأطراف الخارجية وقناة الجزيرة ، إلا أن استعمالاته تلك لم تجد على الأرض الواقع ما يؤيدها فضاعت كل خططه واستراتيجياته القمعية واخترقتها الثورة بعبقرية الوحدة الوطنية التي تجلت في التقاء إرادة الشعب بكل مكوناته من مدنيين وجيش وأمن شريف.


إن هذه القراءة الأولية تبين أن الشعب متحد على قضايا الثورة واقعا ملموسا وعليه فإن المطالبة بتشكيل حكومة وحدة وطنية لم يكن في واقع الأمر مطلبا للثورة لأن الشعب وقف وقفة واحدة أمام هذه المنظومة القائمة ورفضها رفضا قاطعا وطالب بتغييرها والقطع معها. وقد كان دعاة حكومة الوحدة الوطنية يستبطنون إيجاد مكانة لهم ضمن هذه المطالب فدعوا إلى الوحدة التي تعني في نهاية الأمر تجميع الأطراف القائمة ومنها التجمع الدستوري الديمقراطي الطرف الأكثر تمثيلا مع ما تبقى من الأطراف الفاعلة المعترف بها. وهؤلاء هم الذين سيضمنون الانتقال من الوضعية السابقة إلى الوضعية الجديدة المأمولة .


ولما كانت الاستراتيجيات متباينة فإن الأداء والفعل سيكونان متباينين من طرف لآخر . فمن أهم الدلالات المستحدثة هي خطاب وزير الداخلية السيد أحمد فريعة حيث كان مخيبا للآمال والإنتظارات فلم يعترف بالشهداء ولا بالثورة أصلا ولم يتحدث عن مكاسبها بل توجه مباشرة إلى الخسائر وراح يعطي دروسا للتونسيين الذين حققوا الثورة. كما تعني حكومة الوحدة الوطنية في دلالتها أن الثورة انتهت وأنه على الحكومة التي وضعت لذلك هي من ستواصل المشوار السياسي لتحقيق المطالب الشعبية وعليه فلا بد من تحقيق استتباب للأمن وإعطاء الوقت لهذه الحكومة حتى نتبين النتائج.


بعض المخاوف التي يرسلها هذا الصنف هي التخوف من الفراغ السياسي والخوف من الوقوع في المجهول الذي يمكن أن يزج البلاد وفق أجندات قد تعود بنا إلى الدكتاتورية لذلك يجب التحول إلى الوضع الجديد وفق هذا التدرج السلس ووفق منطق الحكومة الوحدة الوطنية الذي يحمل في طياته الإصلاح في إطار الإستمرارية.


أما منطق الصنف الثاني فيشير إلى حكومة إنقاذ وطني ودلالتها الأساسية هو القطع نهائيا مع مخلفات النظام القديم دون تأخير ودون وسائط والإقدام على ذلك بكل شجاعة ومسؤولية. وتنبني هذه الرؤية على قناعة مفادها أن ما حدث هو ثورة بأتم معنى الكلمة والتي تعني أساسا القطع مع الماضي والإرتقاء بالواقع إلى منظومة جديدة كليا ومختلفة نوعيا بما يحدث قطيعة ابستيمولوجية مع الممارسات السالفة. وتتطلب هذه القطيعة إجرائيا رفض كل وجه سياسي من النظام القديم ومن الناشطين السياسيين بالتجمع الدستوري الديمقراطي والدعوة إلى حله، وتشريك كل الأطراف دون استثناء ومنها الجهات الداخلية والأطراف النقابية لصياغة المرحلة المقبلة ومنها في إطار جدول الأعمال تكوين المجلس التأسيسي والإعداد لدستور جديد يعبر عن إرادة الشعب أي قيام الجمهورية الثانية في تونس. أما مسألة تصريف الأعمال فيمكن الإستعانة بحكومة من التكنوقراطين الذين تزخر بهم البلاد التونسية نظرا لكفاءتهم العالية.


إنني أعتبر من خلال هذا التحليل أن منطق الثورة من أجل تأسيس الجمهورية الثانية هو الأفق الفكري والسياسي الأمثل لهذه المرحلة والذي ينبني على قراءة واعية للراهن واستشراف استراتيجي لتداعياته الراهن وانعكاسه على البلاد التونسية وعلى الإنسانية بشكل عام. إن الاعتماد على منطق الثورة التونسيسة هو تأسيس لرهانات ذات أفق أوسع من اللحظة الراهنة ومكتسباتها الحينية ومن الممكن أن يضع تونس على خط الحداثة من الدرجة الأولى ويقفز بها إلى مراتب مرجعية في الحضارة الإنسانية . فالقطع مع الماضي كليا هو الشرط الضروري لهذه القفزة النوعية وهي قفزة لا ترتمي في المجهول بل إنها ترتمي في قيم الحدثة للدولة والمجتمع والتي ستكون عائداتها الثقافية والفكرية والاقتصادية مربحة كثيرا لا على المدى القريب والمتوسط فقط وإنما على المدى البعيد أيضا بقياس الأجيال والحضارات.

 



20/01/2011
0 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres