Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

حكومة الوحدة الوطنية ورهانات إعادة الإنت

 

 

حكومة الوحدة الوطنية ورهانات إعادة الإنتاج


 

لماذا تأخر النظام التونسي في الإعلان عن حكومة انقاذ وطني؟ لماذا تشكلت حكومة وحدة وطنية في وقت قياسي بعد هروب الرئيس السابق وتضمنت عددا هاما من الوجوه البارزة في التجمع الدستوري الديمقراطي ولاسيما إدارتهم لأهم وزارات السيادة كالداخلية والدفاع والخارجية ؟ لماذا اضطرت الحكومة المِؤقتة إلى ادخال تعديل جديد في تركيبتها بعد ثلاثة عشرة يوما من سقوط الرئيس بن علي؟ ما هي الرهانات التي تطرح على الساحة السياسية أثناء الثورة وبعدها ؟ وما هي الأخطار من رهانات إعادة الإنتاج على واقع الثورة ومستقبلها؟

 


إن قراءة متأنية في المشهد السياسي التونسي والواقع الاجتماعي يؤكد على استعمال رهانات عديدة متباينة بحسب عدد الفاعلين على الساحة ومن الصعب أن نتبينها بدقة في الوقت الراهن ولكن بالإمكان أن نحددها على أساس منطق الثورة التي قامت على أساس مناقض تماما للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في البلاد، وعلى ذلك فإننا سنركز في هذا التحليل على الرهانات التي تنخرط بشكل أو بآخر في منظومة إعادة الإنتاج والتي تثمل  تهديدا استراتيجيا لقيام الثورة واستدامة نتائجها على المستوى الوطني والحضاري ككل.

 


لقد تم الإعلان عن حكومة وحدة وطنية مباشرة بعد الإطاحة بالرئيس السابق وهروبه إلى خارج البلاد، وتعتبر تلك الحكومة أول مؤشر على إعادة الإنتاج ولم تكن تركيبتها التي تم الإعلان عنها لتعكس ما قامت من أجله الثورة وعبرت عنه المظاهرات فعلا وقولا. فعلا من حيث الإقرار بالتحدي والتغيير لرموز المنظومة السائدة والمتمثلة في ضرب المقومات المادية للقيادة السياسية والسطو عليها من ناحية، وفي حرق مقرات التجمع الدستوري الديمقراطي وعدد هام من مراكز الأمن من ناحية أخرى. وأما من ناحية القول فجميع المظاهرات دون استثناء قبل 14 جانفي ويومها والأيام الموالية كانت تنادي بإخراج عصابة السراق، أي التجمع الدستوري الديمقراطي من الحياة السياسية والاجتماعية لأنه العنوان الأول لما آلت إليه البلاد من فساد متعدد والسبب الرئيس لها.

 


لم تكن حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة إذن ترجمة لمنطق الثورة بل وضعت أساسا للإلتفاف على هذا المنطق بوعي متفاوت أو بغير وعي  وتحويل الغضب الشعبي إلى قنوات محددة مع الإبقاء على المكاسب السابقة أو الحد الأدنى منها الذي يسمح بالمواصلة والتجديد والإصلاح. ويعتبر التجمع الدستوري الديمقراطي هو اللاعب الأساسي في هذه التركيبة وهو الذي من وجهة نظري يسير خيوط اللعبة تفاعلا مع متطلبات المرحلة.

 


لقد تم بالفعل توجيه الرأي العام ، من خلال إعلان التجمع عن طرده بعض رموز القيادة السياسية،  ومن خلال الإعلام الوطني المرئي والسمعي بكل عناوينه : التلفزة الوطنية وقناة حنبعل وقناة نسمة، إلى حصر مطالب الثورة في الرئيس السابق وعائلته وحاشيته وغضت الطرف كليا عن المنظومة السياسية السابقة التي كانت وراء انتاج هذا الواقع. وهذه المنظومة تتوفر على منظرين ومخرجين وممولين وآليات وإمكانيات وهيئات وهياكل وقواعد تنفيذية وشبكة علاقات ومقرات.

لقد مكنت حكومة الوحدة الوطنية منذ هروب الرئيس السابق وإلى غاية 27 جانفي تاريخ الإعلان عن تركيبة الحكومة الثانية من اللعب على استيعاب الصدمة بالنسبة لأقوى فاعل – أي التجمع- والمراهنة على التعاطي مع الثورة  بشكل يسمح له بتجديد البناء والبقاء كلاعب أساسي، لكن ليس في الصفوف الأمامية وإنما في الصفوف الخلفية بعد العمل وفق ما يسمح به الوقت على طمس الأدلة والوثائق والشهادات المادية والرمزية التي تورطه في الفساد وسوء التصرف .

 


إنه في تقديري نوع من الخداع السياسي التكتيكي والاستراتيجي الذي أوقع في شراكه أغلب المبتدئين في العمل السياسي (بقياس الخبرة) أو الذين يعملون وفق حسابات حزبية أو فكرية ضيقة وآنية، أو الذين يغلب على تفكيرهم المنزع البراغماتي المنفعي.


صحيح أن السياسة فيها قدر كبير من الإنتهازية واستثمار الفرص المتاحة واغتنامها خاصة عندما تكون فئاته تتصف بالمعاناة والحرمان والإقصاء والتهميش والإستهداف. لكن هذه المواصفات التي لحقت المشهد السياسي المعارض في تونس تدفع بعناصرها إلى الإسراع والتسرع وتبني منطق التدرج والتشبث بما يعرض عليها من هامش للفعل.

 


والحديث هنا في هذا التحليل التشخيصي الفكري، يتوجه إلى الوجوه البارزة التي تصدرت الساحة السياسية والإعلامية في حكومة الوحدة الوطنية الأولى والأحزاب أو التيارات التي تمثلها- دون تخوين أو اتهام بالمؤامرة أو سوء النية- وهي : محمد نجيب الشابي وأحمد ابراهيم والطيب البكوش وقد دعا جميع هؤلاء إلى عدم المطالبة بحل التجمع الدستوري الديمقراطي الذي يعتبر بالنسبة إليهم شأنا داخليا والمهم هو الإتفاق على أجندة للتغيير السياسي والإصلاح على المدى القصير ينتهي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف دولي.

 


          إن قبول هذا المنطق بالنسبة إلى هؤلاء داخل حكومة الوحدة الوطنية الأولى المؤقتة يعني دون شك تكريس رهانات فاعلين متميزين عن التجمع الدستوري الديمقراطي لكنهم ينخرطون في رهاناته الأساسية والاستراتيجية والتكتيكية التي تبنى على استيعاب الصدمة وطمس الفساد وتحويل وجهة الغضب الشعبي إلى مسارات جانبية تسمح للتجمع بالتقاط أنفاسه وإعادة تنظيم الذات وبنائها والعمل على التجديد والإصلاح وفق رهانات إعادة الإنتاج.

 


          لقد تراءى لتلك الوجوه البارزة في الصف الأمامي إعلاميا وسياسيا أن رهاناتها الحالية

التكتيكية ستسمح لها بملء  الفراغ السياسي والإستفادة منه بشكل كبير وكسب تعاطف شعبي واسع يستثمر لا فقط مؤيديهم والمنتسبين إليهم من أحزابهم ولكن أيضا وهو المهم الإرث "الشعبي" للتجمع الدستوري الديمقراطي ومؤيديه و"مناضليه" السابقين. لأنه في غياب رموز التجمع على الساحة السياسية والإعلامية، وفي إطار الدعوة إلى عدم التدخل في شؤون التجمع باسم الديمقراطية ، فإن الفرصة سانحة بالنسبة إليهم لكسب الغنيمة السياسية الكبرى وتكوين رصيد سياسي جديد قوامه رصيد التجمع الهاوي والمفلس، إضافة إلى ما يسمح له موقعهم الجديد من الأسبقية في البروز والتواصل مع الشعب والتعريف ببرامجهم، وهو ما يعتبره البعض خرقا لقواعد اللعبة الديمقراطية النزيهة التي تعطي للجميع فرصا متساوية.

 


لقد أعطت تلك الوجوه البارزة وأحزابها الشرعية لرهانات إعادة الإنتاج بالمعنى الذي يفقد الثورة بريقها في بناء أرضية للتغيير الجذري والإنتقال إلى مرحلة جديدة في الفكر السياسي والاجتماعي لتونس ويبني أصالة نموذجية في القيم ذات العلاقة، ويؤسس لتحول تاريخي حقيقي له أبعاده على المستوى المحلي والوطني والقومي والعالمي.

 


          لقد بدت مؤشرات استعادة الأنفاس والعودة إلى المنظومة السابقة تبرز من حين لآخر، فقد ظهر محمد الغرياني(الأمين العام للتجمع) في المجالات الإعلامية ليؤكد أنه لا يحق لأحد الركوب على الثورة وأن الديمقراطية المنشودة لا تعني الإقصاء وأن حزبه بصدد القيام بمراجعات ويقبل أن يكون ضمن المشهد السياسي المقبل حتى وإن كان في موقع المعارضة( تصريح لفرانس 24، وحديث هاتفي مع قناة حنبعل)، ثم شاهدنا عياض الودرني يقيم ما مواقفه السابقة باعتباره كان مثل كل الشخصيات والمؤسسات والمنظمات التي اجبرت على قبول الواقع وأكرهت عليه (مباشر في قناة حنبعل). ومع هذا وذاك ظهرت رهانات أخرى في إطار صناعة الرموز التي كانت منخرطة في المنظومة السابقة التي جاءت الثورة رافضة لها ومناقضة، وهي على سبيل المثال العربي نصرة مدير قناة حنبعل الذي قدم نفسه على أساس القائد المظلوم – بعد إغلاق قناته- وعلى أساس أن خمسة مليون تونسي يحبونه ويحبون توجهاته وبرامجه. كما أن تصريحات كمال مرجان واستقالته من وزارة الخارجية وبقائه مستشارا للوزير الأول في حكومة الوحدة الوطنية الثانية يؤكد بما لا يدع للشك أنه ينخرط ضمن منظومة إعادة الإنتاج والإعداد للعودة السياسية من أبواب ونوافذ جديدة.

 


يمكن أن نشير هنا في سياقات إعادة الإنتاج للمنظومة القديمة، التدخل الأجنبي الفرنسي والأمريكي الذي ينخرط بشكل فاعل ضمن التشكلات الجديدة ولا يمكن أن نتصور أن هؤلاء سيبقون خارج اللعبة في انتظار ما ستؤول إليه الأمور وما ستفرزه الساحة السياسية والاجتماعية. لقد أكد جيفري فلتمان مساعد وزيرة الخاجية الامريكية لشؤون الشرق الأدنى أنه سيقف إلى جانب حكومة الوحدة الوطنية من أجل تكريس الديمقراطية والحريات واحترام إرادة الشعب وقال في إطار ذلك : "إن حكومة الوحدة الوطنية اتخذت قرارات هامة وقطعت خطوات كبيرة على درب الانفتاح السياسي وارساء الديمقراطية". بما يعني أنه يؤيد بشكل رسمي الرهانات التي أشرنا إليها في تحليلنا لتركيبة تلك الحكومة والتي تتوافق معها ومن خلالها الرهانات الأجنبية الفرنسية والأمريكية وهي رهانات تعمل على إعادة انتاج المكاسب السابقة في العلاقات الدولية وتأمين المصالح المشتركة وفق الرؤية الخارجية وتضمن لها مكانة مستقبلية ضمن التشكل الجديد للواقع السياسي والاجتماعي المترتقب.

 


لقد تواصل الضغط الشعبي بعد الإعلان عن تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة الأولى رافضا منطق إعادة الإنتاج واعترضت سبيله رهانات أعضاء تلك الحكومة وتحاملوا عليه بأشكال مختلفة وقدموا أوهاما عديدة لمحاربته مثل الخوف من الفوضى والفراغ والعودة إلى الدكتاتورية والحكم العسكري والتدخل الخارجي الغربي أو العربي، وهذه الأوهام تم ، بشكل واع وغير واع، تقديمها وعرضها ونشرها بهدف الإبقاء على منظومة إعادة الإنتاج ودحض قيم الثورة المبنية أساسا على القطع مع مخلفات العهد الماضي. ومن أشكال هذا الضغط تنظيم المظاهرات اليومية في تونس العاصمة وفي مختلف مدن الجمهورية، كما تمثل بشكل بارز في الاعتصام الذي وقع في ساحة القصبة أمام مبنى الوزارة الأولى والأشكال النضالية التي خاضها بعضهم التي بلغت حد الإضراب عن الطعام( رفض المعتصمون التعامل كليا مع وسائل الإعلام الوطنية وأطردوا المصورين التابعين لها: القناة الوطنية وقناة حنبعل وقناة نسمة واعتبروها مناقضة للثورة ). ومن مظاهر هذا الضغط الشعبي أيضا الإضراب الذي دعى إليه الإتحاد العام التونسي للشغل في قطاع التعليم الأساسي والثانوي.

 


وفي المقابل واجه هذا الرهان الأصيل رهان إعادة الإنتاج وتم التعامل معه بنفس المنطق القديم في الإقصاء والتهميش سواء من قبل تلك الوجوه البارزة أو من قبل وسائل الإعلام الوطنية بمختلف أصنافها التي تبنت منطق الحكومة المعلن ، ولوحظت ممارسات خطيرة آخرها التهجم بالعنف المادي على المعتصمين وتفريقهم بالقوة البوليسية واستخدام وسائل القمع في ذلك مساء يوم الجمعة 28 جانفي بساحة القصبة( استمرار عقيدة الأمن على ما هي عليه)، وتوظيف ميليشيات التجمع للتشويش على رهانات الضغط وتشويهها أخلاقيا وفكريا. كما لوحظ الدعوة إلى قيام مظاهرات مضادة تدعو إلى التمسك برهانات الحكومة مع ما يمثله ذلك من امكانيات التصادم وتهديد سلامة المتظاهرين جميعا. كما تم استغلال فساد بعض القيادات المركزية والجهوية في الإتحاد العام التونسي للشغل ومواقفها المناشدة والمدعمة للسلطة الساقطة، بغرض ضرب الوحدة النقابية وإفشال أهداف الضغط الشعبي من أجل القطع مع إعادة الإنتاج.

 


اعتبرت عمليات الضغط الشعبي على الحكومة بمثابة غوغاء(أحمد ابراهيم) وأنها لا تمثل الشعب في أي شيء وجاء ذلك على لسان الصف الأمامي لمنظومة إعادة الإنتاج بدعم وقيادة من منظومة الصف الثاني المسؤولة الأولى على إعادة الإنتاج.

 


لقد تم الإعلان يوم 27 جانفي عن تركيبة حكومة وطنية جديدة تضم اثني عشرة وزيرا جديدا وتعطي وزارات السيادة مثل الداخلية والخارجية والدفاع إلى وجوه مستقلة لإدارتها. ويأتي هذا الإعلان نتيجة ذلك الضغط الشعبي المتواصل حيث يقر ضمنيا بأن تلك المطالب كانت محقة ومشروعة. لقد كسب الضغط الشعبي مساحة متقدمة من الثورة التي لم تنته بعد ، ويعتبر ما تم الإعلان عنه يوم 27 جانفي مكسبا جديدا وهاما للثورة التونسية ومسارها  من أجل القطع مع الماضي والتطلع للقيم الجديدة.

 


ونحن نتساءل من وجهة نظرنا: كيف سيكون تشكل مشهد الرهانات بعد الإعلان عن تشكيلة الحكومة المؤقتة الثانية وخاصة بعد أحداث القصبة؟ وما هي المسارات التي ستتخذها كل من رهانات إعادة الإنتاج ورهانات قيم الثورة الداعية إلى القطع كليا مع الماضي؟ وهل ستنحسر دائرة رهانات إعادة الإنتاج؟ وهل ستراجع النخب الفكرية والسياسية أداءها على أساس المراهنة على قيم الثورة والقطع مع مخلفات المنظومة السابقة والتأسيس لثورة حقيقية نموذجية في التاريخ والحضارة؟

 


هذا ما سنعمل على متابعته مستقبلا بالتحليل مع تطور الأوضاع والأحداث.

 


محمد الحبيب الخضراوي

السبت 29 جانفي 2011

 

 



29/01/2011
0 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres