Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

الوعي الثوري ومحكات اختبار الشرعية: ثلاثة &#

الوعي الثوري ومحكات اختبار الشرعية:

ثلاثة أشهر من المسار الثوري

 

إعداد: محمد الحبيب الخضراوي

(أستاذ العلوم الثقافية بالمعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي)

كتب بتاريخ: 12-04-2011


بعد مرور ثلاثة أشهر على الإطاحة بالنظام السياسي في تونس وبعد أن أكدت الثورة قوتها في تأثيث الحراك الاجتماعي والسياسي وقيادته، وبناء على أثر الصدمة التي أحدثتها الثورة في المشهد العام بإمكاننا أن نتساءل الآن: ماهي التشكلات الجديدة المحدثة في إطار الثورة؟ وهل تمكنت مختلف الرهانات من تشكيل وعي ثوري تجاوز عتبة الصدمة وردة الفعل الأولية إلى تكوين عقلانية تستعمل لفهم ما حدث وتحليله من ناحية ، كما تستعمل أيضا لعرض برامج عملية للإصلاح والتغيير والبناء من ناحية أخرى؟ وإذا ما اعتبرنا أن الثورة التونسية كانت بلا رأس وفق ما حللنا سابقا فهل بإمكان هذا الوعي الناشئ أن يطرح على نفسه القيادة؟ وهل أن هذا الوعي واحدا أم متعددا ؟  وما هي المحكات التي ستخضع هذا الوعي إلى الشرعية والتقييم والمراجعة؟


بإمكاننا أن ننطلق من المحطات التي سجلتها الثورة في إطار المسار الثوري والتي من أهمها الإطاحة بالحكومة الثانية التي ترأسها محمد الغنوشي والتي لم تستطع أن تصمد كثيرا أمام المطالب الواسعة بفصل البيان بين ما يعود للثورة وما يعود لقوى الارتداد وإعادة انتاج المنظومة السابقة. لقد تشكل وعي ثوري استطاع أن يجمع عناصر قوة تمكنت من دفع المسار الثوري وكسب نقاط أخرى تراكمت لفائدة المد الثوري. وشكلت تظاهرات القصبة 02 بالعاصمة وبأغلب ولايات الجمهورية طاقة الدفع للإنتقال إلى مرحلة الباجي قايد السبسي في إطار مطالب حل الحكومة المؤقتة وتكوين مجلس تأسيسي وتعليق العمل بالدستور وحل مجلسي النواب والمستشارين والبوليس السياسي وجهاز أمن الدولة والقطع مع رموز العهد السابق.[1]


لقد كانت هذه المطالب بمثابة عناوين الواجهة الأمامية لمستوى متقدم من الوعي  الثوري استطاع أن يحفز جماهير واسعة ويكون زخما اعلاميا ودعائيا لفائدته، وعملت الجمعيات والأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني دورا هاما في صياغة هذه الواجهة النضالية وبلورة صورها فعبرت بذلك على استجابة لحاجة ملحة في تأطير الشارع ورسم أفق واضح للتحرك السياسي والتعاطي مع استحقاقات الثورة.


كانت الحاجة الاجتماعية ملحة في توفير عناوين سياسية لمطالب الثورة وهذه الحاجة تدفع نحو تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعيين من ناحية وإلى تحقيق مناخات للثقة وتوضيح أفق الممارسة في إدارة شؤون البلاد من ناحية أخرى. وتجسد على ذلك الوعي الثوري في قمة نضالاته على مستوى القصبة 2 ، وعبرت الاعتصامات في مظاهرها المتعددة عن نضج في الأداء وتم تجاوز كل سلبيات القصبة 1، وتم تنظيم رفع الشعارات التي جاءت متناسقة وموحدة لكنها مختلفة عن شعارات القصبة 1 وغير متناقضة معها، حيث دعت إلى التكتل والتوحد وراء المطالب الجامعة ولم تنجرف وراء الجهويات والعروش والمطالب الاجتماعية لفئة دون أخرى.


وتشكلت هذه الجبهة الموحدة في إطار رمزي جامع بالرغم من الاختلاف الجوهري بين عناصر ومكونات المجلس الوطني لحماية الثورة والأطراف الأخرى الداعمة للإعتصامات من جهات ومؤسسات ومنظمات وجمعيات وشخصيات، وتم ترتيب مختلف العروض بالإحتجاجات بشكل تصاعدي يتوازى فيه المطلب بالدعاية الاعلامية المحلية والوطنية والعالمية وتم السعي نحو توضيح التمايز بين الصفوف والمواقف بحسب المطالب المعروضة وتجسدت قمة التعبئة في مظاهرات يوم الجمعة حيث غطت عشرات الآلاف من المواطنين ساحة القصبة بالعاصمة إضافة إلى عشرات الآلاف الأخرى الموزعة بين كامل أنحاء الجمهورية ولا سيما في ولاية صفاقس.


لقد عبر هذا الوعي الثوري عن عقلانية هامة أطرت الممارسة واحتضنتها وعبرت عنها في أشكال تتضمن منطقا مترابطا يتصف بالراديكالية في التعامل مع نواتج النظام السابق. إلا أنه بالإمكان ملاحظة عقلانيات أخرى محايثة أنتجها ضغط الواقع الجديد تختلف عن الأولى  لأنها فضلت منطق التدرج في التعاطي مع الواقع بسبب الخوف من العواقب والفزاعات التي تطرع في إطار رهانات مختلفة لفاعلين ينتمون إلى المنظومتين القديمة والجديدة في الآن نفسه.


إن تدافع الوعي الثوري بكل عقلانياته كشف عن تنوع منطق المعالجة وعبر عن حركية متميزة أثمرتها التجربة العملية وتكونت على إثر الفراغ والتشتت والانحلال في البنى والروابط الاجتماعية التي أفرزتها صدمة الثورة وقوة أثرها في الواقع. فكان من أهم مواصفات  هذا الوعي الثوري هو الإمتداد الطبيعي لحركة الثورة من ناحية، ثم التناغم مع الأحداث وحركة الضغط الاجتماعي والتوافق معها بتعبيرات ملائمة تعبر عنها وتجسدها من ناحية ثانية.


المستوى الآخر النوعي  من الوعي الثوري تجسد في بداية مرحلة الحكومة الثالثة التي ترأسها الباجي قايد السبسي حيث تمت الاستجابة إلى أهم مطالب المجلس الوطني للدفاع عن الثورة متمثلة في حل الحكومة وإلغاء العمل بالدستور والدعوة إلى انتخابات مجلس تأسيسي يوم 24 جويلية وتشكيل هيئة عليا لحماية أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي مهمتها الأساسية الإعداد لمجلة انتخابية يتوافق عليها جميع الأطراف وتكون أداة قانونية واجرائية لإنجاز انتخابات المجلس التأسيسي. وفي الأثناء تم إصدار حكما قضائيا بحل التجمع الدستوري الديمقراطي وأبطل نشاط أعضاء مجلسي النواب والمستشارين وأوقف صرف مرتباتهم. كما تم الإعلان عن حل البوليس السياسي وجهاز أمن الدولة وأعلنت الحكومة الجديدة أيضا -التي تكون أعضاؤها من شخصيات غير معنية بانتخابات المجلس التأسيسي والترشح لرئاسة الدولة- أهدافا اجرائية وموضعية هامة تمثلت في إعادة الأمن إلى البلاد وتوفير مقومات هيبة الدولة وتسيير شؤونها ودواليبها حماية للاقتصاد الوطني من الانهيار.


لقد استطاعت هذه الإجراءات في بداية مرحلة قايد السبسي ، أن توحد مجموعة هامة من العقلانيات التي تختفي وراءها قوى اجتماعية وسياسية وانعكست هذه الاجراءات على الوضع الأمني والحياة اليومية للمواطن خلال الأسابيع الثلاثة الأولى في  الحكومة الثالثة ، حيث لوحظ تحسن هام في تحقيق مكاسب متتالية من أجل مقاومة الجريمة الفردية والمنظمة وهو ما لاقى استحسان جميع الأطراف.


لقد استقر الوعي الثوري على هذه المكاسب ووجدت فيها ومن خلالها مختلف العقلانيات الداخلية والخارجية معبرا للإنطلاق إلى مرحلة أخرى وإلى إعادة رسم تشكل جديد للوعي الثوري يضمن لها بالأساس حضورها ومشاركتها في صياغة المستقبل السياسي وبلورته ومتابعة الخيارات الأخرى المترتبة عنه. فكيف ستعمل هذه العقلانيات على انتاج هذه النوع المرتقب والمؤمل من المشاركة ؟ وما هي الآليات التي ستلتجئ إليها ؟ وأية محكات  ستعترضها في هذا المسار؟


إن أول مظهر لعقلانيات الوعي الثوري الذي سيتأهل للتعامل مع هذه المرحلة الجديدة يكمن في تعدد الأحزاب التي عبرت عن رغبتها بالمشاركة في الحياة السياسية ويرجح أن يتجاوز عددها الثمانين حزبا عند موعد الانتخابات بينما اسند الترخيص لـ 57 حزبا عند تاريخ كتابة هذا التحليل. لقد تفتت الوعي الثوري بهذا المشهد بعدما كان مصطفا وراء مقولتين أو ثلاث مقولات أساسية (مقولة المجلس الوطني لحماية الثورة+ مقولة الحكومة الثانية+ مقولة الأطراف الصامتة)، وانحل العقد السياسي بعدما انتظم جزئيا إلى أجزاء أو جزئيات وهويات أولية في الفكر والثقافة والمرجع والمنهج والرؤية، وبإمكاننا أن نتساءل ما إذا كان هذا التشتت حقيقيا أي يعكس أطروحات متباينة في الشأن السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي أو مصطنعا نتيجة الدخول في اللعبة السياسية اعتمادا على الحسابات والمعادلات والتكتيك والبراغماتية؟


إننا من وجهة نظر هذا التحليل نعتبر أن هذا التشتت هو ظاهرة سليمة لكنها غير صحية. فهي سليمة لأنها ناتجة عن انفجار في التعبير عن الذات بعد انسداد دام أكثر من خمسة عقود، وهي ظاهرة غير صحية لأنه سواء كان التشتت حقيقيا أو مصطنعا فإن هذا الوعي تراجع إلى الذات النواة ، إلى الذات الأولية التي نشأت وتكونت في سياقات تاريخية سابقة للثورة وعبرت جميع تلك الذوات عن نفسها بأشكال مختلفة وبأسماء متباينة، وقد أكدت لنا ثورة 14 جانفي عجز تلك الذوات عن إدراك المنشود وفشلها بمقوماتها تلك وبمنطقها السائد أن تحقق ما ترغب فيه.


فلماذا إذن عادت تلك التشكلات إلى ذواتها الماضية بالرغم مما احتوت عليه من عيوب وإخفاقات سابقة؟ ألم يناد الجميع بضرورة مراجعة الذات ونقدها وجلدها حتى تتناغم مع إيقاع الثورة ومنطقها؟ لماذا كثرة الأنا؟ ولسان حال هذا التشتت يقول ها أنا ذا؟ لماذا لم يخضع هذا المظهر الجديد في الوعي الثوري إلى محكات شرعية الثورة التي جمعت، وإلى الوعي الثوري الجمعي الذي نجح في الإيقاع بالنظام السابق وإفشاله؟ وهل يكفي تغيير الإسم والمسمى ورفع الشعارات حتى نشير إلى المراجعة؟


إن العمل على مساءلة هذا الوعي في إطار محكات الثورة لا يعني نقده أو تقييمه، وإنما نعمل على المساءلة من أجل التشخيص والتحليل للمشهد العام ومكوناته بهدف ابراز شكل انتظام تلك المكونات وتموقعها في إطار مسارات الثورة التونسية التي نعتبرها ثورة نموذجية في التاريخ المعاصر لها تداعيات كمية ونوعية على المحيط المحلي الوطني والاقليمي والعربي والعالمي. أما مسألة التقييم فلا تطرح حسب رأيي إلا في إطار رؤية معينة لعناصر هذه العقلانية أو تلك وبعد امتداد زمني كاف يسمح باستيعاب الحركة والفعل.


تشير مختلف قراءات أدبيات الفكر الصاعد إبان الثورة إلى التباين الملحوظ بين متطلبات الثورة وبين الواقع الاجتماعي المعيش وعليه يطرح سؤال منهجي هام :هل أن الواقع الاجتماعي مهيأ لمرحلة الإنتقال الديمقراطي؟


طرح هذا السؤال بأشكال مختلفة لدى أوساط النخبة التونسية السياسية والفكرية والحقوقية، ويستبطن هذا السؤال الرغبة في قيادة المجتمع وتطويعه حتى يتقبل وعيا ثوريا قياديا. ومن هنا نتبين عقلانية الأطراف التي دعت إلى تشكيل أحزاب سياسية حيث أنه – بحسب منطقها- ، اعتبارا إلى أن الثورة التونسية كانت بلا رأس ودون قيادة فإنه بالإمكان المراهنة في المجال السياسي والتقدم لعرض قيادة المجتمع بأفكار سياسية تحمل مصطلحات إن في عنوان الحزب أو في أهدافه تصدرت المشهد الاعلامي والسياسي ومسارات الثورة، ومنها الرغبة في توجيه المجتمع من مشروع المناصفة بين الذكور والإناث في القوائم الانتخابية التي أعلنت عنها الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي مستندة في ذلك إلى شرعية انتاجات أعضائها الفكرية النخبوية ومفتقرة إلى شرعية الرصيد الاجتماعي والثقافي.


لقد راهنت هذه العقلانيات على قيادة المجتمع وعملت على اغراقه في الذوات والتحزب وهي بذلك عبرت عن فكر استند إلى منطق الذات وإلى قراءة شكلية للحركة الثورية التي أطاحت بالنظام لكنها لم ترتق إلى حد اللحظة، بهذا الإغراق وبهذه الذاتية، إلى منطق الديناميات الاجتماعية وعمقها الثوري والاحتجاجي، بل أنها ساهمت في السماح بالعودة إلى الذات وتوفير مناخ يقوي النزعة نحو المغالاة من خلال الفعل وردود الفعل والخوف من الإقصاء والتهميش. فالإعلان عن الخلافة الاسلامية ولد الدعوة المضادة إلى اللائكية والعلمانية ، فإثارة قضية الهوية العربية الاسلامية واقتراح تغيير البند الأول من الدستور القديم:" تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة ، الإسلام دينها ، العربية لغتها و الجمهورية نظامها "، ولم تلبث أن حلت مسألة الحجاب حتى ظهرت الدعوات إلى النقاب ثم برزت مسألة حرية الممارسة الثقافية ورموزها وما رافق بعضها من أحداث في الجنوب التونسي على الحدود الليبية.


هذه القضايا المحدثة أربكت المسار الثوري واستغلت عن وعي أو عن غير وعي من الأطراف المدعمة لها أو المناهضة لخلق متغيرات جديدة على الوعي الاجتماعي بواقع الثورة وآفاقها، ويتصف هذا الوعي عموما بالريبة والنظر بحذر إلى المستحدث لأنه قد يمس بعمق الوعي الجمعي والانتظارات من الثورة. ونظرا إلى حداثة الممارسة الديمقراطية فإن النقاشات النظرية التي تطرح في كتب ومقالات السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي وكانت تناقش لدى بعض من النخب الفكرية المنفصمة عن الواقع الاجتماعي حتى وجدت لها مجال للتنفيس في الحياة السياسية، فإنه تلك الأطروحات  بادرت بالمراهنة على قيادة المجتمع محافظة على نفس خصوصيات الذات التي ارتبطت في مساراتها السابقة بصراعات وصدامات لم تنته بنتائج إيجابية معلومة.


وليس من دواع للقول في هذا التحليل بأن لكل ذات الحق بأن ترسم لنفسها مسارا للتعبير ورؤية للتغيير وفق المنهج الذي ترتئيه وتعمل عليه، وقد اعتبرنا أن تعدد الذوات في المشهد السياسي هو ظاهرة سليمة إلا أن مناقشتنا تتجاوز هذا الحق الفردي إلى المحك الاجتماعي واستحقاقاته في علاقة بحدود السياق ومتطلبات حدي الزمان والمكان الذين تفرضها مسارات الثورة التونسية.


لئن عجزت الذوات الفكرية والمذهبية منفردة عن التطور نحو الاستجابة لمتطلبات القيادة السياسية ومنها إلى القيادة الاجتماعية حيث بادرت بالبحث عن تأمين حضور الذات وفسحت المجال مجددا أمام تشتيت الوعي العام وتفتيته حيث كان ذلك مدخلا مناسبا لتشغيل رهانات أخرى جديدة أو متجددة باستمرار للبحث هنا وهناك عن موقع ضمن المشهد الجديد وإعادة انتاج مواقع قديمة أو مصالح لا تفهم إلا في إطار تحصين الذات والتسرع في اكتساح المجال داخل حيز الحرية المتاح. إلا أن محصلة هذا الفعل ورد الفعل ولدت المغالاة والتطرف بمعنى الجذب نحو الخصائص الذاتية أكثر من الرغبة في بناء التوافقات وتوفير مناخات العيش المشترك الذي لم تتهيئ إليه ولم تهيئه ولم توفر السياقات الموضوعية التي تنتجه وتعمل على تأسيسه.


قد يكون هذا الواقع الجديد بخصائصه المذكورة هو المسار الضروري لبلوغ مرحلة الديمقراطية وكسب رهانات الثورة على جميع المستويات، وقد يعني التعبير الحي عن التجربة المحلية في تكونها ونشأتها وتطورها باعتبارها تبني ذاتها بذاتها وتستفيد من إيجابياتها وعثراتها وأخطائها. إلا أن قراءتنا للمرحلة الراهنة (بعد ثلاثة أشهر) تؤكد أن هذا الواقع السياسي المستحدث كون مشهدا ضبابيا لدى المواطن ولم يساعد على توضيح أفق إيجابي للثورة في شهرها الثالث على مستوى اجتماعي واسع، وعلى ذلك تكثفت عمليات الرغبة في الهجرة غير الشرعية لدى الشباب وأصبحت المحاولات تعد آلاف الشباب اليائس والمهمش ومسدود الأفق (قرابة 22 ألف توجهوا إلى لمبادوزا الإيطالية فقط). وهو تعبير مباشر من هؤلاء المهاجرين على أن الثورة –في حدود شهرها الثالث- لا أمل من ورائها وليس في مقدورها أن تعرض أكثر مما تعرضه البلدان الأوروبية وما توفره من أموال وأمان. لذلك كانت ممارسات الهجرة غير الشرعية أضعاف ما كانت عليه قبل الثورة وكونت ظاهرة حادة مربكة للوضع الأسري والوطني والمتوسطي.


هي إذن عقلانية أخرى موازية يحملها هؤلاء الشباب وتنبع من تقييمهم لمخرجات الثورة على أوضاعهم المادية والاجتماعية وعندما لم تتوافق معادلة الانتظارات مع الواقع انتصرت موازنة الهجرة ، وطبعا لم تعد الوعود السياسية بتحقيق الاندماج كافية للضغط على تلك الموازنة، وربما قامت الثورة على أساس هذا الانتقام للوعود ولتلك الصور الزائفة التي غطت المشهد السياسي والإعلامي دون جدوى ودون نجاعة تذكر.

وتتفق هذه العقلانية لشباب " الحرقة" باعتبارها ممارسة تعمل على تحقيق مطالب احتياجات الذات لفئات المهمشين، مع عقلانية أخرى تحملها فئات مهمشة أيضا وتتأثر بشكل مباشر بالمشهد السياسي وتبعاته الأمنية ، فكلما كان ذلك المشهد ضبابيا وقاتما ومظلما وكلما ارتبكت النتائج الأمنية إلا ونشطت تلك الفئات التي جسد تاريخها مسارا اجتماعيا موازيا قائما على السرقة والسطو والتحيل والعنف والاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة. وقد استطاعت السلطة السابقة أن تحاصر هذه الفئات وفق قنوات واستفادت منها في تكوين شبكات متعددة. ولما تفككت منظومة الروابط السابقة عن هذه المجموعات لم تجد بدا إلا أن تعمل على ممارسة ما تأهلت له فعملت على تحقيق مطالبها بالشكل الذي يرضي ذاتها. ولئن برزت مجموعة هامة من المشكلات الأمنية على الواجهة الاعلامية في هذه الفترة مجال الدراسة فإن ذلك لا يمكن أن يخفي أن تلك الظواهر كانت حاضرة بقوة في العهد السابق في إطار مبادرات فردية أو ثنائية أو في شكل عصابات منظمة في شتى المجالات لكنها كانت مطمورة  إعلاميا ورسميا على عكس ما هي عليه الآن.


ولا يختلف منطق هذه الفئات الاجتماعية عن منطق بعض الأفراد أو الجماعات التي نادت بأخذ زمام الأمور في تطبيق ما تراه صالحا في محيطها سواء كان هذا المحيط عشائريا أو مهنيا أو طلابيا حيث يبيح هؤلاء لأنفسهم أخذ حقهم كما يرونه بأنفسهم مستعملين في ذلك الوسائل المتاحة لهم إما بقطع الطريق أو باستعمال القوة أو بالثلب والشتم والحط من القيمة الأدبية والمعنوية مثلما قامت به بعض الطلبة تجاه الأساتذة بالجامعة التونسية( رسوم كاريكاتورية تحمل اسم ولقب الأستاذ فيها اتهام وثلب). وتم توظيف العنوان الحضاري والتاريخي لكلمة " ارحل Dégage" إلى استعمالات تخضع إلى رهانات متعددة لم يعد فيها قدر من الوضوح الكافي لتبيان الغث من السمين ، و القديم من الجديد، والمصلحة الخاصة والفئوية من المصلحة العامة، وأهداف الذات والحزب من أهداف الثورة.


لكن ما هو لافت للانتباه هنا هو تكون حراك القصبة 3 في نهاية الشهر الثالث لحكومة السبسي ، الذي حشد لفائدته فئات هامة في العاصمة وداخل ولايات الجمهورية. وقد تشكلت هذه العقلانية على أنقاذ فشل بعض الوعود التي أطلقتها حكومة قايد السبسي والغموض الذي لا يزال مطروحا على مستويات عديدة ومنها محاسبة رموز الفساد و تأخر تصحيح اصلاح القضاء وممارسات الأمن في علاقتها بالمتظاهرين وتنقية المشهد السياسي من رموز التجمع. ورغم أن القصبة 1 والقصبة 2 كانتا من أهم التحركات التي اصطف من خلالها الوعي الثوري وأدتا إلى نتائج هامة على المستوى الاجتماعي والسياسي وانتهتا بتوافقات ناجحة تسير على وقعهما الحياة الحالية ، فإن المواجهة التي لقيتها القصبة 3 كانت حادة جدا واستعملت ضدها خطط أمنية عالية التركيز قد تكون مستوردة، وانتهت إلى افشال تمركزها بالقصبة لكنها ظلت تعبر عن مطالبها من خلال أشكال أخرى من الممارسات بهدف التأثير في الحياة السياسية وتطوير الأداء وتصحيح المسار والوقوف أمام التهديدات التي تمر عبر المنافذ ومنها البورقيبية كما يسوقها المراهنون الجدد.


إن تفكيك المشهد العام بالبلاد التونسية في أثناء  ثلاثة أشهر من اسقاط رمز النظام السابق يبين تعدد عقلانيات متمحورة حول الذات حيث تتضاءل فيما بينها التبادلات الاتصالية وترشح مناخات العنف والصدام والدفع نحو التشبث بالذات كسبيل ضامن لتحقيق المطالب وجني المكاسب . كما برزت عقلانية القصبة 03 التي كانت من خلال القصبة 1 والقصبة 2 المعبر نحو تصحيح المسار السياسي بامتياز. وقد تبين أن تلك العقلانيات جميعا تنشط وتفعل بمقتضى خصوصيات فعلها كلما تضاءلت فرص الوضوح على المستوى السياسي وما يترتب عنه من إيجاد شرعيات بواسطة الانتخاب والتوافق على الدستور وعلى تراتيب المخرج السياسي لترتيب العقد الاجتماعي الجديد على أساس التوافق.


فالوعي الثوري مشوش وغير مستقر وهو في حاجة إلى مكاسب يجد فيها كل طرف أملا في حراكه الاجتماعي وأن يكون ذلك الحراك قادرا على تحقيق تلك المطالب بما لا يضر بمطالب الآخرين، وتزداد هذه الحاجة إلحاحا مع التقدم نحو مرحلة الحسم لتحقيق الشرعية الأولى شعبيا بعد الثورة لانتخاب أعضاء المجلس التأسيسي يوم 24 جويلية 2011.

 

 

 



[1] نشير هنا إلى تكوين المجلس الوطني لحماية الثورة الذي ضم أهم القوى السياسية والاجتماعية بالبلاد واصطفت وراءه جبهة متعددة الأطراف ومختلفة التوجهات.



12/04/2011
0 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres