Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

المعارضة في تونس: من مأزق التشكل إلى الخيار &

 

المعارضة في تونس: من مأزق التشكل إلى الخيار الأسوأ

 


إعداد: الدكتور محمد الحبيب الخضراوي

أستاذ العلوم الثقافية بجامعة تونس

تونس في 20-06-2012

 

 

مع انتهاء إقرار العمل بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية ومع انتخاب رئيس الجمهورية وإقرار التشكيلة الوزارية بتزكية 154 عضوا واعتراض 38 بينما احتفظ 11 عضوا بصوته، اكتمل المشهد السياسي الأولي في تونس وتوضحت الخارطة الأولى من نوعها التي تعكس تركيبة الواقع الاجتماعي في تونس والقوى السياسية المعبرة عنه، واعتبر هذا المسار من الأحداث هو النتيجة العملية لرغبة الشعب وإرادته بعد اندلاع الثورة منذ 17 ديسمبر 2009 واندحار السلطة السياسية القائمة في 14 جانفي 2010 وتوالي الاختيارات المؤقتة الماسكة بزمام إدارة شؤون الدولة ودواليبها .

لقد تغيرت المواقع للفاعلين السياسيين بحسب ما شهدته تونس من حركية أثناء هذا المسار الثوري وتعددت رهانات تلك القوى بحسب طبيعة المشهد المستحدث. ولئن كانت أحداث الثورة مفاجئة للطبقة السياسية بشكل عام ولم تكن وليدة تخطيط أو فعل سياسي مسبق لأي كان من تلك القوى، إلا أنه سرعان ما تداركت تلك القوى أنفاسها وبدأت شعارات الثورة تنزاح شيئا فشيئا من شعارات اجتماعية واقتصادية إلى شعارات سياسية إما عامة وإما في إطار ألوان حزبية متعددة.

 

ولم يكن الانفجار في المطالب الاجتماعية الصورة البارزة الوحيدة للمشهد التونسي بعد 14 جانفي بل رافقها انفجار على مستوى المطالب السياسية الداعية إلى تأمين موقع فاعل في الصورة وإلى المطالبة بالحق في المشاركة وإبداء الرأي والتسيير بعد عقود من الكبت السياسي. إلا أن قراءة عميقة في مسارات تلك التعبيرات السياسية  والتحولات التي لحقتها نعتبره من وجهة نظرنا مطلبا معرفيا ملحا يساعد على قراءة الأفق الإستراتيجية لقيادة مسارات الثورة من قبل القوى السياسية في تونس وفي الخيارات المتاحة على المدد القريبة والمتوسطة للحراك السياسي والاجتماعي وإرسائها على الأوجه المطلوبة  بحسب منطقها الداخلي وبحسب تمظهراتها على المشهد السياسي.

 

1-   الحراك السياسي في تونس قبل الشرعية

 

تبلور الحراك السياسي قبل الشرعية في فيما برز من تشكيلة الحكومات المؤقتة من جهة وتطلعات الشارع ومطالبه  وبقية المشهد السياسي من جهة ثانية . فبعد سقوط الفاعل السياسي الأوحد تسارعت الرهانات لإعادة تموقعها من جديد ولتحتل المواقع التي تراها مناسبة لحجمها ولدورها التي حددته لنفسها انطلاقا مما توفرت عليه من رصيد سابق  إن في مستوى الارتباط بالحزب الحاكم السابق أو في مستوى علاقتها بالمعارضة في صيغتها القديمة وترتب على ذلك تشويش قاتم على مستوى المشهد السياسي زاد في حدة المطالب الإجتماعية وضغط الشارع. وانطلقت عمليات سبر الآراء بكثرة غير معهودة في بلادنا لفك رموز هذا المشهد السياسي، إلا أن نتائجها لم ترض أحدا وشكك الكثيرون في مصداقيتها وعلميتها ولوحت عديد الأطراف بمفاجئات كانت أمنية لديها ورغبة أكثر منها واقعا وقدرة، بينما خفتت أصوات كانت تعد الأبرز على الواقع كما ظهرت أطراف تنسب لنفسها صفة "المستقلة"، ألقت بنفسها جزافا داخل هذا المشهد في قراءة منها لاغتنام فرصة استجلاب ثقة الناخب بعيدا على غوغائية الأحزاب التقليدية.

لقد اعتبرت الفترة الفاصلة  بين 14 جانفي و 23 أكتوبر من أكثر الفترات التاريخية حركية في المشهد السياسي بتونس حيث تكثفت الرهانات وتحرر الفعل السياسي  وأطلق العنان للنشاط السياسي بحسب طبيعة كل فاعل ،وتحرك المجتمع المدني بقواه المختلفة للمشاركة في اللعبة السياسية  والتأثير على اتجاهاتها وهي الفرصة التي كان ينتظرها الجميع بفارغ الصبر. كما سجلت رغبة فاعلين جدد في تشكيل الواقع السياسي والجمعياتي الرسمي حيث فاق عدد الأحزاب 120 حزبا معترفا به وأكثر من 500 جمعية  و تماطرت أعداد الصحف والدوريات . ويعبر هذا الفعل المتعدد عن الإيمان بالقدرة على الفعل وإمكانية الكسب من وراء هذا الفعل. وبنى الكثير من الفاعلين توقعات كانت نابعة من فهم معين لما يحيط بهم ولما قرؤوه بحدود معرفتهم وإدراكهم وتحليلهم وكانت حدود الفعل لكل منهم تتسع وتضيق بمقتضى تلك القدرات.

وعموما يمكن الكشف عن عناصر مرجعية في الخارطة السياسية قبل تبلور الشرعية كما يلي:

 

-        القوى السياسية المنخرطة في الحكومات المؤقتة سواء لدى محمد الغنوشي في الحكومة الأولى والثانية أو بحكومة قائد السبسي.

 

-        التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل الذي كان يتوفر على رصيد بشري هائل يقدر بـثلاثة ملايين ونصف المليون منخرط بحسب عدد البطاقات الانخراط الموزعة وبحسب تصريحات بعض الفاعلين فيه، وقد اعتبر هذا الإرث محل فعل ومحل رهان أطراف عديدة تأمل الظفر بنصيب من هذه الغنيمة.

 

-        مكونات المجتمع المدني التي راهنت بدورها في غالبيتها على التموقع في المشهد السياسي في إطار عمليات إسناد بعض الأحزاب السياسية  أو قيادة البعض الآخر منها واستغلال الفضاءات المتاحة الإعلامية منها خاصة للتفاعل تأثرا وتأثيرا ونذكر هنا المنظمات النقابية والحقوقية وغيرها.

-        القوى السياسية الناشئة والمستقلون اللذين أثثوا المشهد السياسي بخطابات وصور لم تعمل كثيرا على خلق تميز إضافي في ذلك المشهد سوى الكثرة والتخمة والتضخم، وتحتاج هذه المشاركة الاستثنائية قدرا أكبر من التحليل نظرا لأهميتها في تشكيل الصورة الضبابية لدى الناخب المستهدف النهائي من القوة الدعائية.

 

-        القوى من الأحزاب التقليدية بمختلف أصنافها التي استفادت من إرثها التاريخي من ناحية وتموقعها الجديد خارج الحكومات المؤقتة وقد أهلها الوضع السياسي والأمني المستحدث لضخ الروح في خلاياها وشرايينها فاختار بعضها التوقف عن المشاركة في المشهد الرسمي السياسي ، وتوجه البعض الآخر- إضافة إلى التواجد السياسي والإعلامي - إلى الفعل في العمق الاجتماعي والانتشار الجغرافي والتعبئة الشعبية حيث شهدت هذه المرحلة تركيز فروع للنشاط السياسي والحزبي الرسمي والعلني بالولايات والمعتمديات، وتم ترتيب التنظم استعدادا لمرحلة الحسم الانتخابي، وأثناء هذا التأهيل السريع تعثرت بعض الخطوات وكسبت بعض الخطوات الأخرى بينما أثر الهدف النهائي والرغبة في الفوز لدى البعض على السيرورة الطبيعية لقواها الداخلية وشهدت إرباكا أمام الاستحقاقات التي خططت لها ورسمتها.

إنه من أهم السمات الخارطة السياسية كما يبدو من هذا التوصيف الأولي  قبل مرحلة الشرعية هو الحراك المكثف وعدم الاستقرار والبحث المستمر وتغير المواقع، وبالرغم من محافظة بعض القوى على خط منحاز لاستحقاقات الثورة  إلا أن تعثر  الأداء السياسي والحكومي وتغيرهما من حكومة محمد الغنوشي الأولى فالثانية فحكومة قائد السبسي وتشكيل مجلس حماية الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي ثم بعث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتحديد موعد أول للانتخابات ثم الموعد الثاني المقترح فالموعد الثالث النهائي ،أكد كل ذلك على انخراط تلك القوى السياسية البارزة منها والخفية بالظل في رسم معالم هذا الحراك والمراهنة عليه سواء في إطار الواجهة الأولى أو في إطار واجهات أخرى فاعلة إن بوجه غير علني أو بأشكال أخرى علنية وإعلامية واضحة، وبحسب القدرات الفردية أو بالتكتل في إطار شبكة من الفاعلين والعلاقات المختلفة حجما وكثافة.

 

ولم يكن هذا الحراك ليتبلور لولا ضغط الشارع الذي بدا أثناء الثورة موحدا في مطالبه وألوانه وشعاراته إلا أنه أخذ شيئا فشيئا يتلون بتلون المواقف السياسية واختلط الأمر أكثر عند الرأي العام وعند الطبقة السياسية ذاتها وأصبح كل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك. فكل يدعي وصلا بأهداف الثورة وأهداف الثورة عسيرة على أن يختزلها حزب بعد أن عبر عنها شعب بكامله.

ومن الصعب جدا أن نتحدث في تلك الفترة عن معارضة وعن سلطة بالمعنى الكلاسيكي المتعارف عليه لأن تشكيلة السلطة أكدت أنها مؤقتة إلى حين الانتخابات، بينما انتقل الصراع السياسي إلى حلبة مجلس حماية الثورة الذي عبر عن الوجود الفاعل للقوى التي هي بصدد التشكل والتموقع . وشيئا فشيئا بدأ حجم تلك القوى يتبلور داخل هذا المجلس بالتفاعل مع الواقع الاجتماعي والاحتجاجي الخارجي ولم يعد حجم الفاعلين داخل المجلس يعكس الحجم الحقيقي الأولي خارج المجلس فتعالت أصوات تطالب بتمثيلية حقيقية داخل المجلس والتحول في اتخاذ القرارات من التصويت والأغلبية إلى التوافق ضمانا لاستمرار المشاركة .

 

وفعلا انتهى هذا المجلس إلى أزمة طبيعية مع اقتراب موعد الانتخابات وموعد تحديد الشرعية التي اعتبرت مطلبا جامعا دون استثناء ، وأفل نجم هذا المجلس مع رغبته في التسرع باستصدار قوانين تؤسس قبل انتخاب المجلس التأسيسي ومع الانسحابات المتتالية أو التهديد بها. ولم تعد الأضواء تسلط إلا على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تم انتخاب أعضائها بحسب موازين القوى المسيطرة بمجلس حماية الثورة حيث كان من الصعب المشاركة ضمنها خارج دوائر تلك القوى الداخلية. ورغم ذلك استحوذت الهيئة على الأوراق الأخيرة للعبة السياسية قبيل تحديد الشرعية لدى تلك القوى لإنهاء الجدل حول من يمثل الأغلبية ومن يمثل الأقلية ومن يمثل الفئات الصامتة في إطار بلورة خارطة سياسية حقيقية.

 

 

2-   بين منطق الدولة ومنطق النخبة ومنطق أهداف الثورة

 

عبرت المرحلة المذكورة التي تصدرت فيها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الواجهة الأمامية للحراك سابق الذكر،عن تماه تام بين منطق الدولة ومنطق النخبة السياسية ومنطق المطالب الجماعية متمثلة فيما يعبر عنه بأهداف الثورة، ولم يكن من اليسير استخلاص ما يعود لهذا أو لذاك بسبب هذا التداخل. وقد تكون هذه الوضعية هي المثلى التي تمخضت عنها الترتيبات الإجرائية للانتهاء إلى الشرعية والخارطة السياسية التي قبل بها الجميع ولكن بأشكال متفاوتة.

 

أعلنت الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات أنه يستحيل إجراء الإنتخابات في الموعد المقرر لها أي يوم 24 جويلية وذلك لأسباب لوجستية وتقنية بحتة واقترحت لذلك يوما آخر له رمزيته في الفكر اليساري والإنساني وهو 16 أكتوبر وبذلك دخلت الحياة السياسية في تونس منعرجا جديدا كشف عن أفق جديد في الممارسة السياسية لتركيز سيادة الدولة من ناحية كما كشف من ناحية أخرى عن مشهد جديد في الخارطة السياسية وفي الرهانات التي تقودها الطبقة السياسية بشكل عام والنخب الفكرية بوجه خاص . وطرح التساؤل المحوري بحدة من جديد : أين نحن من الشرعية؟ وهل ثمة من يناور لوأد هذه الشرعية؟.

 

فعلا لقد نجحت الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات في خلق الحدث السياسي بامتياز، فعندما ركن المشهد السياسي على التهيئ لموعد 24 جويلية في الأغلب الأعم لمكوناته وعناصره، وحيث انطلق البعض في حملته الإنتخابية الدعائية، فاجأت الهيئة التمثل السائد وأعلنت استحالة إجراء الانتخابات في الموعد المحدد وكان لهذا الإعلان أن انفجرت التكتلات السائدة وأعيد تشكيل المشهد السياسي على خلفية قراءة هذا الإعلان وأسبابه وتداعياته على الشرعية وبناء مقومات الدولة ، ولوحظ انزياح في التوافقات القائمة وبروز صياغة لتوافقات جديدة بين القوى السياسية وبدأت الحسابات الشخصية تعلو على سطح التحليلات السياسية استعدادا للمرور على محك الشرعية، وأفرغ الكل ما في جعبته على الساحة الدعائية بالتجربة والخطأ تهيئا للكسب من وراء ذلك وتحيز موقع مستقبلي إن في موقع سلطة أو في موقع معارض.

 

 

3-   القوى السياسية في خضم الشرعية الإنتخابية

 

استعدت الهيئة العليا للإنتخابات لموعد الشرعية بكل تفان ووفرت لذلك جميع أسباب النجاح وحرصت في ذلك على أن يكون هذا الموعد معبرا عن إرادة جميع الناخبين الذين يسمح لهم القانون الإنتخابي  بالمشاركة، وعبر هذا الحرص عن رهان آخر يضاف إلى الرهانات المطروحة على الساحة حيث حرصت الهيئة على التمديد في أكثر من مرة للتسجيل الإرادي وكثفت من تنويع نقاط التسجيل بشكل مدروس، كما سمحت بإمكانية تغيير مكان الإقتراع داخل الدائرة الإنتخابية وعملت أخيرا على إتاحة الإقتراع للمسجلين آليا وتوفير مراكز اقتراع خاصة لهم تحسبا لمشاركتهم.

 

 كان عمل الهيئة يتجه نحو اتجاهين اثنين الأول نحو تطوير الإستعداد الذاتي لإنجاح الموعد الانتخابي مع ما يتطلبه كل ذلك من اعداد قانوني ولوجستي وانتداب الموارد البشرية الضرورية القادرة على تأمين هذا الموعد وتكوينها. أما الإتجاه الثاني فقد كان في علاقة مع القوى السياسية التي عبرت عن الانخراط في الإحتكام إلى صندوق الإقتراع بدء بعمليات الترشح مرورا بالحملة الإنتخابية ووصولا إلى الإعلان عن النتائج. ولم تكن هذه العلاقة يسيرة بالمرة وتخللتها عديد التجاذبات والتشنجات التي بلغت حد الرغبة في التمرد على القوانين والقواعد والإجراءات التي وضعتها الهيئة لتنظيم هذه الممارسة الأولى من نوعها في تاريخ تونس الحديث والمعاصر. واعتبرت مجموعة هامة من تلك القوى أن هذه الفترة هي محددة كليا في النتائج النهائية الإنتخابية حيث كان لتمثلها ذاك أن سخرت كل إمكانياتها البشرية والمالية وتجاوزت في أغلب الأحيان قواعد العمل وارتكبت مخالفات متفاوتة  لم تكن مؤثرة على الواقع الإنتخابي بشكل ملحوظ ولكنها كانت دالة من حيث انضباط بعض المترشحين والقائمات للإجراءات العملية خاصة في مجال الدعاية السياسية وقد سجلت الهيئات المستقلة للإنتخابات مئات المخالفات في هذا الصدد.

 

إلا أن حرص الهيئة على فرض الالتزام بمدونة السلوك الانتخابي من قبل جميع المشاركين وتهيئتهم لقبول النتائج واحترام نتائجها ونشر المراقبين الداخليين والملاحظين الخارجيين كان له الأثر الجيد في ملازمة الانضباط لمسار العملية الانتخابية ووفر مبدأ الشفافية الإجراءات العملية الكفيلة بأن تبقى عمليات الإقتراع في كل مراحلها وخاصة يوم الاقتراع، نزيهة عن الشوائب المخلة بنجاحها. وشهد الملاحظون المحليون والدوليون بذلك وقبلهم أعضاء الهيئات الفرعية والهيئة المركزية وهيئات الرقابة لديها، رغم بعض الملاحظات السلبية التي يجب أخذها بعين الإعتبار في أية ممارسة انتخابية مستقبلية. ومع نهاية يوم الاقتراع بات الجميع من القوى السياسية على بينة تقريبية من حجمه الحقيقي ولاحت في الأفق الخارطة السياسية الجديدة في عناصرها الخام على الأقل.

 

 

4-   الحراك السياسي بعيد الشرعية الانتخابية

 

لم يؤثر تأخير الإعلان عن النتائج النهائية على ملامح المشهد السياسي الجديد الذي انكشف مخلفا صدمات متفاوتة للفاعلين السياسيين مبينا في نفس الوقت عجز هؤلاء، بعض النخبة وبعض السياسيين، عن القدرة في التحليل السياسي وعن تقدير التوقع المناسب لحجم كل من هؤلاء. ومثلما أن اندلاع الثورة أكد ضعف الطبقة السياسية في القيادة والتموقع فقد ثبتت الإنتخابات نفس هذه الفكرة تقريبا وعدلت منها بعض الشيء وانقسم المشهد إلى شقين متباينين الأول اصطلح على تسميته بالأغلبية ويضم القوى السياسية المتحالفة الترويكا: (حزب حركة النهضة، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، حزب التكتل)، أما الشق الثاني فيضم قوة ناشئة جديدة ( العريضة الشعبية) تضاف إليها بقية القوى الأخرى ذات التمثيلية الضعيفة. ولم يمر وقت طويل من إعلان النتائج حتى أعلنت بعض من هذه القوى بالشق الثاني ، دون تفكير عميق، عن اختيارها لموقع المعارضة ورفض المشاركة في الواجهة ضمن السلطة الجديدة وهكذا بدأنا نتحدث في تونس لأول مرة عن تشكل جديد لقوى بالسلطة وأخرى بالمعارضة بالمعنى الحقيقي لدلالة المصطلحات.

 

فلماذا كان هذا الإختيار على دور المعارضة؟ وما هي الصور المحمولة عليها من جراء هذا الدور؟ وما علاقة هذا الدور بتنامي ظاهرة الإحتجاجات والإعتصامات والعنف بالبلاد أولا ثم المطالبة بإسقاط الحكومة والنظام ثانيا والمطالبة بحكومة انقاذ ثالثا؟ وما تأثير ذلك على مستقبل المعارضة لاسيما أمام الاستحقاقات الإنتخابية القريبة المقبلة؟

برزت بعض ردود الأفعال ومواقف تجاه نتائج الإنتخابات موجهة اللوم للناخبين الذين تم استدراجهم ولم يقدروا حقيقة مصالحهم وأخطؤوا في اختياراتهم، واعتبر البعض أن هذا الشعب أميا في معظمه وأنه تم التلاعب بأحاسيسه التي حرفت إرادته كما اعتبر البعض أن الشعب غبي وأنه لم يختار وإنما كان في إطار ردة فعل تجاه بعض الأحداث التي رافقت العملية الانتخابية ومنها مخلفات عرض شريط أولي بقاعة أفريكا " لا ربي ولا سيدي" والثاني شريط الصور المتحركة حول الذات الإلهية التي بثته قناة نسمة. واستند البعض الآخر في موقفه إلى أخطاء تم تسجيلها أثناء عملية الاقتراع وأخرى في إطار الهيئات الفرعية واختيار أعوان مكاتب الإقتراع الذين لم يكونوا في أغلبيتهم محايدين.

 

كانت تلك المواقف نتيجة لآثار الصدمة الأولى للقوى المعارضة حيث توجهت الإنتقادات إلى الخارج أكثر منها إلى الداخل وشكلت صورة عامة مفادها أن المشكل لا يكمن في الأحزاب الفاشلة وإنما في الشعب الذي لم يحسن الإختيار. ولم تبرز في المقابل الأصوات الداعية إلى النقد الداخلي والذاتي إلا بشكل محتشم وخافت نتج عنه بعض الإنشقاقات بالأحزاب ضعيفة التمثيلية. لكن المسألة لم تقف عند هذا الحد بل تطور موقف المعارضة أثناء مداولات التنظيم المؤقت للسلط بالمجلس التأسيسي وتشكلت جبهة مضادة للترويكا تزامنت مع حركة احتجاجية واسعة وحادة ساهمت في تعطيل أبرز المؤسسات الإقتصادية وشل الحركة التجارية في عديد المناطق بالبلاد وتفاقم عدد العاطلين عن العمل وتدنى مستوى النمو إلى ما دون الصفر مما ينذر بوضع كارثي على مستقبل الثورة التونسية. وتواترت الأحداث المؤججة للتصادم وبلورة صورة موحدة عن المعارضة وخاصة مع الدعوة إلى اعتصام باردو1 برفع مجموعة من الشعارات تهدف إلى الضغط على المجلس التأسيسي وعدم السماح له بالمس من المكاسب الحداثية والديمقراطية والحريات الفردية وحرية المرأة ممثلة في مجلة الأحوال الشخصية.

 

وهكذا ضمت المعارضة إلى رصيدها صورا جديدة راجت في المستوى الشعبي اقترنت بالتعطيل وعدم احترام إرادة الشعب والمساهمة في تعكير الوضع الاقتصادي ومساندة الإعتصامات وتمديد الفراغ السياسي، بينما روجت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية منها الخاصة والعمومية، بقوة للمنطق الداخلي لدى المعارضة الذي يحول دون تغول الأغلبية ويضمن حق الأقلية في حرية التعبير ويدعو إلى واجب التظاهر والإعتصام حتى تحقيق المطالب وعدم الموافقة على القوانين التي تصدر عن الأغلبية بالتصويت بالمجلس التأسيسي لأنها لا تراعي إلا مصالح الترويكا وتعيد انتاج الدكتاتورية واستفراد فئة بالنفوذ على حساب البقية.

 

لقد ارتأت المعارضة أن تكتسح الساحة الإعلامية وتعيد التموقع باغتنام مجموعة من الفرص المتاحة التي توفرت نتيجة الحراك السياسي الجديد والانفجارات المتعددة هنا وهناك لعل أهمها حرية الإعلام والإعلاميين وقضية السلفيين والحريات الأكاديمية .وقد أضيف إليها التوترات الاجتماعية الناجمة عن الكوارث الطبيعية المتتالية الفيضانات الأولى ثم موجة البرد والثلج ثانيا ثم الفيضانات الكبرى ببوسالم ومجاز الباب . ولم تقف الأحداث عند هذا المستوى بل تواصلت مع موقف الحكومة مما يجري في سوريا وطردها للسفير السوري ثم مع الأحداث التي رافقت  زيارة الداعية وجدي غنيم إلى تونس ثم مع التوتر الإجتماعي الذي رافق اضرابات عمال البلدية وأحدث توترا بين الإتحاد العام التونسي للشغل وحركة النهضة، ثم مع الإضطرابات والإعتصامات المتفرقة وتنامي المطلبية الفردية والجماعية وحتى الجهوية، ثم مع أحداث العنف التي رافقت تداعيات مظاهرة  09 أفريل 2012 بمحيط شارع الحبيب بورقيبة، مع ما يضاف إلى ذلك من صدام مع الإعلام العمومي والدعوات القائلة بخوصصته. 

وقد شهد التوتر الإجتماعي والإقتصادي خطا تصاعديا – قد يكون مدروسا- تم تتويجه بمبادرات سياسية هامة مثل الدعوة إلى حكومة الإنقاذ الوطني ومبادرة نداء الوطن للباجي قايد السبسي ثم مع المبادرة الوطنية للإتحاد العام التونسي للشغل.

 

 

5-   المعارضة بين الصورة والشكل

 

لقد تجسدت مواقف قوى المعارضة بشكل عام في مستويين اثنين يمكن من خلالهما أن نتحسس مسارات تشكلها وبحثها الدائم عن التموقع والدور.

1-    إعادة التشكل الحزبي والتموقع السياسي

2-    البحث عن التحالفات( مع المنظمة الشغيلة و/أو مع الأحزاب الدستورية)

لم تكن الشرعية بعد الإنتخابات قد تم ادراكها بنفس الكيفية بين الفاعلين السياسيين، ومن الصعب جدا أن نقر بأن انتخابات 23 أكتوبر أحدثت نقلة نوعية في المسار السياسي التونسي لأن التوتر والصدام لم يخفتا ولم يختفيا من المشهد السياسي بل تواصلا بأشكال أخرى وربما أكثر حدة بين تحالف السلطة وتحالف المعارضة وهذا على عكس ما يجري في البلدان الديمقراطية التي تشهد بعض الإستقرار والهدنة مباشرة بعد الإعلان عن النتائج الإنتخابية. ويبدو أن هذه الوضعية غير المريحة كانت نتيجة قراءة معينة لنتائج الإنتخابات وقراءة للإستحقاقات المستقبلية للأطراف السياسية المشكلة للمعارضة.

1-    مستوى التشكل الحزبي والتموقع السياسي: قدمت الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات النتائج النهائية للإنتخابات بالأرقام ولم يتم التعامل مع تلك الأرقام بشكل يسمح بإدراك الحجم الحقيقي خاصة لدى أطراف المعارضة فبدأت تشكك أكثر من أي كان بما فيها المنظمات الدولية التي عاينت الانتخابات. وقد تم ترويج القراءة التالية التي ظهرت في الاحتجاجات الكبرى التي تلت الإنتخابات سواء أمام المجلس التأسيسي أو خارجه وروج لها رموز المعارضة في أكثر من حضور اعلامي.

 

 


 

 

هذه القراءة هي الخلفية الأساسية التي تعبر عن إدراك المعارضة للمشهد السياسي وتفسر ردود أفعالها الآنية والمستقبلية ، وهو إدراك متفائل جدا بموقع متقدم للمعارضة في المستقبل . فالإئتلاف الحاكم لا يمثل أغلبية الشعب التونسي وبالتالي ليس له الحق في تقرير مصيره خاصة وأن فئات عديدة صامتة لم تصوت ولا توافق بالضرورة رأي الترويكا فيما تراه من نظام للحكم وتنظيم للسلطات . فهل يعقل أن يحدد مصير البلاد في مجال الدستور فئة لا تتجاوز 28 بالمائة من الشعب التونسي؟

 

ما هو غير واضح في الرسم هي الأرقام التي تخص المعارضة وعدم وجودها في هذا الرسم يؤكد عدم الرغبة في ابرازها بما يعبر عن انزعاج أو خجل من واقع مرير ومن أزمة داخلية تتصف بها المعارضة في تونس قبل وأثناء وبعد الانتخابات. وفي تقديري الخاص فإن النظام الانتخابي كان أفضل طريقة بالنسبة إلى المشهد السياسي التونسي لإبراز الفئات ضعيفة التمثيلية بالمجلس التأسيسي وإعطائها موقعا للتعبير عن الوجود حتى لا تحرم من حقها في صياغة الدستور وتضمين حقوقها. لكن أزمة الواقع السياسي وتجاذباته كانت نتيجة نوعية التعاطي مع الواقع المستحدث ولم يعد التنوع مصدرا للثراء بل ساهم في تعميق الثنائية بين الترويكا وبين غير الترويكا وبرز ذلك بشكل مكثف عبر وسائل الإعلام بما شوش على المواطن الرؤية والوضوح في مسار الإنتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة. ومن أهم العناصر التي ثبتت حضور هذا التنوع هي طريقة أكبر البقايا بحيث ضمنت مقاعد للأطراف التي لم تكن لها شعبية تؤهلها لتأمين عدد الأصوات الضرورية للظفر بمقعد بالمجلس التأسيسي.

 

ويبين الجدول التالي الأطراف التي أكدت جدارتها بالتمثيلية داخل المجلس التأسيسي مقارنة بالحاصل الانتخابي الذي يقسم عدد المصوتين على عدد المقاعد المخصصة لكل دائرة.


 

الدائرة

الحاصل الإنتخابي

الأطراف التي تأهلت بحسب تمكنها من بلوغ الحاصل

1

تونس1

23222

النهضة + التكتل

2

تونس2

28418

النهضة + التكتل

3

أريانة

25134

النهضة + التكتل

4

بن عروس

23649

النهضة + التكتل + المؤتمر

5

منوبة

19411

النهضة

6

بنزرت

22371

النهضة

7

زغوان

12728

النهضة

8

نابل1

24983

النهضة

9

نابل2

21539

النهضة

10

باجة

17338

النهضة

11

جندوبة

14122

النهضة

12

الكاف

14921

النهضة

13

سليانة

12240

النهضة

14

سوسة

24608

النهضة + المبادرة

15

المنستير

22883

النهضة + المبادرة

16

المهدية

16880

النهضة

17

صفاقس1

20369

النهضة

18

صفاقس2

24327

النهضة + المؤتمر

19

القيروان

18843

النهضة + العريضة

20

القصرين

15128

النهضة

21

سيدي بوزيد

10230

العريضة + النهضة

22

قابس

20257

النهضة

23

مدنين

17348

النهضة

24

تطاوين

10200

النهضة

25

قفصة

17689

النهضة

26

توزر

11273

النهضة

27

قبلي

14347

النهضة + المؤتمر

28

فرنسا1

13528

النهضة

29

فرنسا2

10059

النهضة

30

إيطاليا

7879

النهضة

31

ألمانيا

13342

النهضة (عدم امكانية القسمة لعدم توفر أكثر من مقعد لذلك يعتبر الأول هو الفائز)

32

أمريكا

14739

0

33

العالم العربي وبقية دول العالم

9615

0

 

 

وبحساب الحاصل الإنتخابي ، فإن الأطراف التي استحقت عن جدارة حضورا كاملا بالمجلس التأسيسي هي خمسة أطراف فقط، وهي: النهضة في 31 دائرة والتكتل في 04 دوائر و المؤتمر في 03 دوائر والمبادرة في دائرتين  ثم العريضة الشعبية في دائرتين أيضا. وبحساب الظهور الأول فإن النهضة برزت في 30 دائرة تلتها قائمة العريضة في دائرة وحيدة.

 

أما بحساب الظهور الثاني فكان للتكتل في أربعة دوائر ثم للمؤتمر في دائرتين (02) ثم للمبادرة في دائرتين (02)  ثم للعريضة والنهضة في دائرة واحدة لكل منهما. وأما بحساب الظهور الثالث فكان للمؤتمر في دائرة واحدة. هذا المشهد  هو النتيجة الحتمية لانخفاض عدد المقاعد وارتفاع الحاصل الإنتخابي وهي الطريقة الحسابية التي لم تسمح للمعارضة الضعيفة بالحصول على استحقاقات معينة إلا إذا تم تغييرها في الإنتخابات المقبلة.

 

وأمام هذه المعطيات الموضوعية التي تدركها المعارضة جيدا والتي موقعت المعارضة في مأزق، كان لا بد من التفكير في مخرج مشرف لوجود المعارضة في المجالات الديمقراطية والحداثة والتقدمية، فبدأت الساحة السياسية تتحرك من جديد وتنشط باتجاه بلورة الجبهات التي يمكن أن تحدث التوازن السياسي في مقابل الإئتلاف الحاكم. وكان الإعلان عن التموقع في صفوف المعارضة ضد الإئتلاف الحاكم هو خيار غير محسوب العواقب في تقديري  لأنه يضع المعارضة خارج دائرة الفعل في الحياة اليومية أولا ويزيد ثانيا من عزلة أطراف المعارضة وانحسارها على المستوى الشعبي الذي سيركز على مثلث الترويكا دون أن يتوسع كثيرا باحثا عن غيرها من الأطراف. وتداركا لهذا المأزق وعملا على وضع حدا لتداعياته السلبية تحركت المعارضة في اتجاهات عديدة باحثة عن مخرج مشرف ومدخل جديد للحياة السياسية التي ستكون مواعيدها قريبة وفي حدود السنة تقريبا، وهذا المعطى يشكل أحد العناصر الهامة في تفسير حدة التوتر السياسي في البلاد لأن الجميع يأمل في تدارك هذا الخلل على مستوى النتائج وليس له مصلحة الآن في الإقرار بالشرعية كاملة خاصة وأن الموعد الإنتخابي يعتبر على الأبواب وهو الفرصة الأخيرة التي يمكن التدارك فيها ومن خلالها لتحقيق تموقع حقيقي في المستقبل الذي لن يتغير إلا بعد خمس سنوات أخرى بانتخابات جديدة.

 

ومما يفسر أيضا التوتر القائم في العلاقات السياسية والحزبية، إضافة إلى رواج بعض الأفكار الإقصائية يمينا ويسارا، هو رهان الدستور الذي يعتبر هدفا لكل فئة وحزبا إن في المعارضة أو في الحكم وهي الفرصة التي يحاول من خلالها كل طرف افتكاك مواقع ومواقف في إطار تصوره لنظرة مغلقة وساكنة للدستور لا تتوقع فيه التغيير على المدى القريب وهو ما يزيد في حدة التشنج والتوتر. فالخوف من الآخر وعدم الإطمئنان إليه وتوجس الغدر منه هو الذي يشحن المواقف ويدفع إلى التطرف في الرأي لضمان الحصول على الحد الأدنى.

 

لكن ماهي الإحتمالات الممكنة لإعادة التشكل السياسي وتداعياته على مستوى النتائج الإنتخابية مستقبلا؟

 

أولا: إن المعارضة لا تزال تقترن صورتها لدى الرأي العام بالمعطل للحكومة والوقوف في أحسن الحالات موقف المتصيد للعثرات، وفي صورة عدم توفر عناصر جديدة إيجابية في هذه الصورة، وفي صورة تواصل ضعف  المصالحة مع الثقافة والهوية ، وأمام انحسار قوة التجديد والإقتراح في المشاريع التنموية بالأساس والمشاركة في ارسائها بالبلاد وتعزيز مقومات الدولة، فإن ذلك سيعمل على تفقير المعارضة من الأصوات الإضافية التي تحصلت عليها في انتخابات 23 أكتوبر وسينحسر أمرها في نخبة تزداد ضيقا يوما بعد يوم.

 

ثانيا: إن الحل الأمثل للمعارضة وللبلاد هو التوحد في شكل تكتلات أو جبهات قليلة العدد والعمل على انصهارها داخل تلك الجبهات بشكل ديمقراطي نهائي والحد من الزعامة الموهومة التي رافقت نضالات العديد من الشخصيات ويعتبر ذلك من أهم التحديات وأصعبها في تاريخ النضال السياسي لأطراف المعارضة في مرحلة تونس ما بعد الثورة. وقد بدأت بوادر تحلل الأحزاب وانقسامها تهدد كل الأحزاب والأطراف أولا ثم ظهر تشكيل الجبهات باعتبارها تمشيات إيجابية أخذت في البروز إن في مستوى الكتل بالمجلس التأسيسي أو في مستوى الإستعداد للإنتخابات المقبلة. وهي تشكلات ليست نهائية بل قابلة للإضافة والتغير والمراجعة أيضا بحسب قوة الأحداث والمستجدات على الساحة السياسية .

 

ثالثا: إن مستقبل العريضة الشعبية غير واضح، فبعد الإنشقاقات الداخلية لهذه القائمة، وعدم إقناعها المنطقي بالحجم الذي تحصلت عليه بالمجلس التأسيسي، إضافة إلى تدني الصورة العامة للعناصر الممثلة لها عبر وسائل الإعلام، فإن مصير العريضة سيكون مفاجئا مستقبلا ولكن هذه المرة في الإتجاه السلبي خاصة مع ظهور جبهات وسطية دستورية على الساحة قادرة على سحب جزء كبير من قاعدتها الانتخابية.

 

رابعا: إن مصير الأحزاب التجمعية أو القريبة منها تحت مسمى الأحزاب الدستورية يدعو إلى التوقف والتحليل المتأني باعتبار تأثيرها المباشر على الحراك السياسي قبل الإنتخابات المقبلة. وتستند هذه المبادرة التي يتزعمها الباجي قائد السبسي على مقولة أن الثورة لم تكن تسيرها الأحزاب ولا القيادات وبالتالي يمكن أن نصنع لها قيادات جديدة قادرة على مواصلة قيادتها وتوجيهها . ويعتبر الحراك السياسي الذي يجسده الباجي قائد السبسي من أهم المسارات التي تعمل على إعادة تشكيل المشهد السياسي وأكثرها فاعلية، ولمعرفة هذه الأهمية يجب استجلاب مختلف العناصر المتدخلة منذ قيام حكومة السبسي التي ورثت رهانات حكومة الغنوشي الأولى والثانية وأورثتها بعض الأوراق التي تعمل على إيجاد موقع ما لشبكة التجمعيين المتبقيين في المشهد السياسي. ولئن كان هذا التموقع غير مرغوب فيه بشكل عام من قبل المجموعة السياسية وخاصة من خلال الفصل 15 الشهير الذي قبله السبسي عن مضض، فإن هذا التموقع بدأ في الإعلان عن نفسه شيئا فشيئا منذ إعلان المبادرة للباجي قائد السبسي وبيانه بتاريخ 26 جانفي 2012 ودعمته الأحزاب الدستورية، وصولا إلى تاريخ 24 مارس مع الاجتماع العام بالمنستير الذي ضم قرابة 50 حزبا سياسيا و 525 من الجمعيات القديمة والناشئة، اضافة إلى مجموعة هامة من الوزراء السابقين في حكومة السبسي، ثم مع اعلان نداء الوطن بعد ذلك وتأسيسه لحزب سياسي.

 

وهكذا بدأ التشكل العملي والعلني لأحزاب التجمع في مدى ثلاثة أشهر بعد أن كان خفيا يسري بشكل غير معلن في المشهد السياسي بعد الانتخابات والذي توزع بوضوح بين حزب المبادرة وبين العريضة الشعبية بحسب ما هو مشاع.

 

وإذا صحت هذه المعلومات فإن العريضة الشعبية سوف لن يصبح لها أي وزن سياسي في المستقبل وستتحول أصوات تلك الشبكة إلى الوجود المعلن لشبكة الأحزاب الدستورية الجديدة التي ستعمل على الظهور الإعلامي بمساعدة مجموعة من وزراء حكومة السبسي التي قيل أنها تكنوقراطية إضافة إلى بقايا التجمع بالإدارة وبالإعلام العمومي خاصة. فليس من الصدفة أن تفاجئنا القناة الوطنية في أول خبر لها في سهرة  يوم 23 مارس بتراجع شعبية الرئاسات الثلاث من خلال نتائج عملية سبر آراء عبر الإرساليات القصيرة، وأن تعلن نفس القناة من الغد في أول عنوان إخباري لها  عن اجتماع شعبي كبير بالمنستير يجمع الأحزاب الدستورية بحضور الباجي قائد السبسي.

 

إلاّ أن البارز في هذا الحراك السياسي للأحزاب الدستورية هو العلاقة التي تجمعها مع التكتلات الناشئة الأخرى ومنها التي تحوم حول حركة التجديد أو التي تقوم حول الحزب الديمقراطي التقدمي أو التي تحوم حول الحزب الشيوعي التونسي. وقد أيدت أغلب هذه التكتلات هذه القوة العائدة من التجمعيين القدامى بما يوحى باستعادة تشكيل الصورة السياسية الغالبة قبل الثورة، أي تحالف التجمع مع قوى هامة من نخبة اليسار، وإعادة استرجاع صورة تحالف حكومة الغنوشي باعتبارها تحالفا بين قوى كانت في المعارضة مع بقايا من المنظومة السابقة.

 

وتتفق جميع هذه التحركات الخاصة بصياغة المشهد السياسي لأحزاب وقوى المعارضة على ضرورة إحداث التوازن السياسي الذي يقف دون تغول الترويكا أو النهضة خصوصا. ومن الممكن أن نستشف من هذا المشهد، أن تحالفات الأحزاب الدستورية فيما بينها هي تحالفات انتخابية يسمح لها بتأمين قوة انتخابية مستقبلية تستقطب بقايا شبكة التجمع. أما التحالفات الأخرى فقد تكون قوة انتخابية بين الأطراف التي شكلتها إلا أنه من الصعب حاليا أن نقر إلا كونها تحالفات سياسية لا غير بسبب  المسارات التاريخية الخاصة للأحزاب التي تكونها وبسبب رصيدها الرمزي الذي كونته طيلة هذا التاريخ سواء في مواقفها أو في زعاماتها والتي من الصعب جدا أن تتنازل عنها أو أن تعمل على انصهارها مع غيرها بشكل كلي. وإن حدث ذلك الإنصهار فإن تداعيات الإنشطار المستمر ستكون صورتها الأبرز.

 

وفي قراءتنا الاستشرافية لهذا الحراك السياسي والإئتلافي استعدادا للموعد الانتخابي المقبل، فإن الأحزاب الدستورية ستضم إلى رصيدها أرصدة الأحزاب الدستورية الناشئة إضافة إلى حزب المبادرة وأصوات العريضة الشعبية وهذا في حالة عدم منع القانون الانتخابي المقبل تواجد مثل هذه الأطراف بصفتها التجمعية سواء منهم المناشدين أو الذين تقمصوا أدوارا ومسؤوليات في قيادة التجمع في مختلف المستويات. أما من الناحية الشعبية فلا يمكن القول بأن الدستوريين سيكسبون إضافة نوعية لأن العمل السياسي الحزبي ليس صناعة خارج التاريخ. ولا يمكن لقراءة السبسي التي أشار إليها في أكثر من مرة والتي تقول أن الثورة التونسية لم يتزعمها أحد، أن تكون من خلال صنع زعامات جديدة قادرة على ركوب الثورة وتوجيهها من جديد، وعليه من الصعب جدا أن تنجح هذه الأحزاب شعبيا ، إلاّ أن عملية الاستفادة من هذه القوى المنتسبة للوسطية والدستورية لن تكون حاصل مجموع القوى المنفردة المكونة لها ، بل إن انصهارها سيحافظ على بعض من هويتها المنبوذة شعبيا وسيعمل على افقادها أجزاء هامة من أطرافها إن برزت بشكل واضح في العلن. ولكن أقصى ما يمكن أن تجنيه هو استثمار لما كسبته من قوة مادية ورمزية ومصالح في العهد السابق وكانت السبب المباشر التي قامت ضده قوى الثورة، كما أنها لن تتجاوز المخيال الشعبي الذي لا يزال يرغب في محاسبة رموز الفساد ورموز التجمع الذي كانوا السبب الرئيسي في انحطاط المنظومة السابقة.

 

إن الخطأ الإستراتيجي لأحزاب المعارضة هو المراهنة على جواد خاسر حسم معه الشعب يوم 14 جانفي لكن وضع تلك القوى المتأزم سيعمق من ارباك بعض مبادراتها ويشوش على بعضها وضوح الرؤية وسيفاقم من احتمال وقوع الأخطاء القاتلة عندها، وهذا ما لمسنا له أثرا في نتائج انتخابات 23 أكتوبر وما تؤكده نتائج سبر الآراء الجارية في أكثر من مرة عن تواصل انحسار الثقة في رموزها السياسيين. إن الواقع السياسي للمعارضة يشتغل في إطار مسارات بناء الذات ويتسم في أغلبه بالتساوق مع رهانات ما قبل الثورة وهو ما يميز مأزق المعارضة وإمكانية سقوطها في الخيار الأسوأ في إطار هشاشة المشهد السياسي بشكل عام .

 

ولم تكن مبادرة حكومة الإنقاذ الوطني التي أعلن عنها الحزب الجمهوري سوى العنوان الأبرز الذي يعمل على تشويش المشهد السياسي بعد سلسلة من الإضرابات والاعتصامات الموضعية في مناطق مختلفة من البلاد. وقد أضيف عنوان التشويش إلى صورة التعطيل المحمولة لدى أحزاب المعارضة مما يتوقع أثره على التموقع التاريخي لقوى المعارضة وأحزابها بالبلاد التونسية وهو تموقع لا يميز كثيرا حسب رأيي بين الفعل المطلوب لبناء الدولة وبين الفعل المطلوب لتطوير القدرات الحزبية والتقدم الآني على الخصوم السياسيين.

 

إن عدم القراءة الجيدة لهذا التموقع المأزق للمعارضة في تونس هو الذي سينتج عنه في الأغلب اختيارات سيئة والتي هي بصدد التراكم وقد تنتهي بفقدان ثقة المواطن في دورها وهذا ما سيشكل خطرا حقيقيا على مستقبل المشهد السياسي بشكل عام وعلى تلك القوى بشكل خاص وسيدفع نحو انحسار اللعبة السياسية بين الترويكا كأكثر القوى استفادة من هذا الوضع حاضرا ومستقبلا.

إن التموقع الأساس حسب قراءتي لقوى المعارضة هو الذي يعمل على المشاركة في بناء مقومات الدولة وتعزيز عمل مؤسساتها لأنها هي الضمان الأوحد لجني الثمار وتحقيق المكاسب في جميع المستويات السياسية والإقتصادية بعدما اهتزت هذه المؤسسات وتم ارباكها بفعل قوة الأحداث والمسار الثوري ورغبة بعض القوى في نشر مجالات الفوضى والإخفاق وتعميمها. فالعمل على زعزعة تلك المقومات وإضعاف تلك المؤسسات ،وهو ما يمثل أسوأ الخيارات، هو تأصيل لخيبة المواطن في التغيير الناتج عن الثورة وبالتالي اجهاض لمشروع حضاري ودور تاريخي مأمول تم الإعلان عنه من تونس يوم 14 جانفي 2011.

 

 

6-   ما هو مصير المعارضة أمام الحراك السياسي والإقتصادي والاجتماعي للترويكا ؟

 

 

 لا يمكن الحديث عن مستقبل المعارضة دون الحديث عن مستقبل آداء الترويكا الحاكمة التي ظلت صورتها ساكنة نظرا لضعف الخبرة الإدارية والإعلامية لديها إلى حدود الإعلان عن الميزانية التكميلية. 

ودون إطالة في هذا الموضوع الذي يستحق تحليلا خاصا فإن حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات قد كسبا كثيرا من مشاركتهما في الحكم وبالرغم من الصعوبات الحزبية الداخلية نتيجة التموقع الجديد في الحكومة لهما ، الإنقسامات الجزئية والإنسحابات، فإن الصورة العامة الشعبية لكليهما قد كسبت عناصر هامة ونقاطا ايجابية بحكم الدور الفاعل في إدارة شؤون البلاد والبروز على سطح الساحة السياسية وقيادتها تؤكده نتائج سبر الآراء الجارية من جهات عدة، وعلى ذلك فمن المنتظر أن يتدعم حضورهما في الرصيد الانتخابي المقبل ويكتسبان أصواتا انتخابية شعبية إضافية هامة جراء ذلك الدور الفاعل حركيا وسياسيا واقتصاديا.

 

أما عن حركة النهضة فهي اللاعب الأقوى والقوة الأكثر تنظيما وتماسكا على الساحة الوطنية وأعتبر من وجهة نظري في التاريخ السياسي أن إدارتها لشؤون الحكومة بمعية المؤتمر والتكتل وتحملهم جميعا مخاطر إدارة دواليب الدولة بعد عشرات السنين من دكتاتورية الحكم الواحد وبعد ثورة شعبية شاملة، أعتبره بمثابة انقاذا للدولة من الإنهيار ومن الإنحلال بعد ما شهده الواقع من انفجارات وارتدادات غير مأمونة العواقب. فالترويكا وإن لم تقنع الشعب إلى حد الآن بمستوى قيادتها فهي الآن تعمل في صمت ولم تحقق انتظارات الجزء الأوسع من الشعب ، هذه الإنتظارات التي ظلت ذات السقف العالي بحكم المزايدات السياسية والإعلامية التي تغذيها باستمرار ودون عقلانية تذكر، فكيف نفسر هذا الصمت وهل ستعمل المفاجأة برفع مستوى انتعاشة الحياة الاقتصادية وتحقق درجة نمو تقارب 3 بالمائة أو أكثر؟ إن تحقق ذلك فإن أكثر المعادلات ستتغير.

 

كما أن نوعية الفعل من المنتظر أن تحدث نقلة نوعية في آداء الترويكا بعد التمكن من دواليب الإدارة وبعد تفعيل الميزانية التكميلية والشروع في تطبيقها على أرض الواقع، وبعد تأمين المصادر المالية من الداخل والخارج في حدها الأدنى لتحقيق انتعاشة الإقتصاد الوطني وانقاذه من الإنهيار، وبعد الدخول في عمليات نوعية من تطهير مكامن الفساد الإداري والمالي والقضائي والإعلامي، وبعد التفرغ من تجديد الهياكل الحزبية وخاصة لدى حركة النهضة في مؤتمرها الذي سينعقد في منتصف جويلية. وعليه فإننا ننتظر في قراءة لهذه المتغيرات مفاجئات في الأداء الحكومي بعد الإنطلاق في تنفيذ المشاريع المدرجة بالميزانية التكميلية وبعد ترتيب البيت الداخلي أواسط صائفة 2012.

فكيف ستكون الممارسات السياسية للمعارضة في سياق المتغيرات الجديدة والنقلة النوعية المرتقبة في الفعل من الترويكا؟ وهل سيستمر تموقعها ضمن السياق المأزق؟ أم أنها ستتحرر وتنتصر للبناء في إطار ما تستوجبه استمرارية الدولة ومتطلبات الدولة الحداثية التي تمثل المعارضة فيها قوة معاضدة لتطور الدولة؟

 

 

" المعارضة في تونس: من مأزق التشكل إلى الخيار الأسوأ"

إعداد: الدكتور محمد الحبيب الخضراوي

أستاذ العلوم الثقافية بجامعة تونس

تونس في 20-06-2012




22/06/2012
0 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres