Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

الديمقراطية المحلية : عنوان مركزي لتحقيق أ&#

 

الديمقراطية المحلية :

 عنوان مركزي لتحقيق أهداف الثورة

إعداد: محمد الحبيب الخضراوي بتاريخ 9-5-2011

 

    اتسع الجدل كثيرا بين النخب السياسية والفكرية في تونس حول أهداف الثورة وتحديدها والاتفاق عليها، وهو وعي ناشئ بعديا أي بعد نجاح الممارسة الشعبية في تحقيق نتائج سياسية هامة وعلى رأسها الإطاحة بالنظام السياسي السابق. وقد ارتقى الجدل حول هذه الأهداف  إلى مرحلة متقدمة تطمح إلى أن تكون إطارا ملزما لتوجهات المجلس التأسيس الذي سيتم انتخابه يوم 24 جولية، ويعبر هذا الحراك عن تخوف النخب الفكرية والسياسية من شرعية الانتخاب وما ستفرزه صناديق الاقتراع، فلا أحد من هذه النخب يقدر حجمه الحقيقي وعمق امتداده الشعبي ، مثلما أن الجميع يجهل بعضه البعض ويحترز على بعض من مساراته التاريخية مما كون رؤية مشوشة نحو الواقع لم يجد فيها هؤلاء ما يطمئنهم كثيرا نحو المستقبل نظرا لغياب المعطيات الموضوعية والمعلومات الميدانية المستقاة من التشخيص الدقيق للواقع ومن دراسات سبر الآراء والبحوث المسحية النزيهة.


        ويكشف هذا الجدل من بعض جوانبه عمق أزمة الثقة التي تكونت بفعل المنظومة السابقة بين النخب الفكرية والسياسية وبين الفئات الإجتماعية أو الشعب بجميع فئاته، حيث يرى بعضا من هذه النخب أنه من الضروري أن تتم قيادة الشعب بواسطة منظومات فكرية تحرره من القيود وتؤهله لأن يبسط سيادته ويتم التمكين له، بينما يرى البعض الآخر أن الشعب في حاجة إلى أن يعبر عن نفسه بنفسه وعن مشاغله واهتماماته دون وصاية من قيادة أو من فكرة أو إيدولوجية أو تركيبات مسقطة وفي خضم هذا التعبير سيكتشف المجتمع ذاته بنفسه وسيهتدي إلى حلول لمشكلاته فيعمل على معالجتها بما يتوفر عليه من قدرات وامكانيات.


     هذه قضايا الخلافية في مشهد النخبة في مسارات الثورة بعد 14 جانفي تسندها أطروحات فكرية ومذهبية وتنبني عليها خيارات واستراتيجيات عمل في التعاطي مع الواقع الموضوعي وتنتهي إلى ممارسات ميدانية قد تتباين في التسميات والعناوين لكنها تعود جميعا إلى تلك الأصول من الاختلاف بين الرؤيتين المعرفيتين وتداعياتهما  العملياتية والإجرائية المتشابكة.

       

     وفي غياب مرجع واقعي يرجح رجاحة أحد الخيارات المطروحة فإنه بالإمكان أن نخوض في نفس هذه القضايا ولكن من منظور آخر مختلف بل ومعكوس. وهو المنظور الذي يتم إهماله عادة لسبب أو لآخر بوعي أو دون وعي وبقصد مدروس أو بممارسة عفوية. ويتعلق هذا المنظور بالبعد المحلي في التحليل والقراءة والممارسة والاستشراف.


        وأقصد بالبعد المحلي هنا ، البعد المجالي الذي يرتبط بحياة المواطن وتحقيق معاشه وقضاء شؤونه وتصريف أعماله بشكل دائم ومتكرر، فالمواطن بحكم موقعه ودوره الاجتماعي فإنه يؤثث ممارسة تمتد على مدار اليوم واعتبارا إلى تكرار تلك الممارسة يوميا فإن قيمتها تحتل المراتب الأولى في تشكيل وعيه بالواقع والتعامل معه في إطار سلوكات عينية يخضع أغلبها للنمطية بحكم التعود. ويبدو للجميع أن تلك السلوكات وردود الأفعال السلوكية الذهنية والحركية والانفعالية الاجتماعية وكأنها بديهية أو هي طابعا ثابتا في الشخصية ويعتقد البعض أنها أيضا قدرية حتمتها قوى خارجية، بينما هي في جوهرها تعود إلى منظومة كاملة من العلاقات الاجتماعية التي تكونت بين الأفراد طيلة علاقاتهم التاريخية ، كما يعود إلى ما نتج من خلال تلك العلاقات من امكانيات وموارد مادية ومرافق وموارد، مثلما يرجع أيضا إلى تراكم خبرتهم الاجتماعية التي تشكلت من خلال الوعي بعناصر المحيط المادي والرمزي.

   

    والمواطن في إطار هذه السياقات من العلاقات ومن ردود الأفعال والمعيش اليومي يتحدد وجوده الاجتماعي وفق تموقعين أساسيين :

 

     التموقع الأول هو موقع المتفرج على الما يحدث والمنفذ لما تم التخطيط له والمطبق لكل التراتيب التي نظمت هذا المحيط المادي والعلائقي دون دراية بالرهانات المستفيدة أو الأكثر استفادة . وقد يجد ذلك المواطن نفسه – إن صحت عليه هذه الصفة- في مآزق عديدة نظرا لعدم معرفته بما يجري حوله أو كذلك نظرا لتصادم حاجياته ومتطلباته من الحياة اليومية مع ما تم اقراره وتنفيذه عمليا ، فقد يجد المواطن نفسه عاطلا عن الشغل أو فاقدا له أو عاجزا عن استغلال موارده الخاصة المادية والرمزية ، وقد لا يجد فضاء يلبي تصريف ميولاته في قضاء الوقت الحر، وقد لا يستمع إلى المعلومات المحلية حول الأحداث التي تهم مدينته وقريته وحيه، وقد تطفو ظواهر اجتماعية سلبية بالقرب من سكناه فلا يجد وجهة للتعامل معها بما لا يضر بوجوه المادي والاجتماعي ، وقد تضطرب شؤون الخدمات الحيوية فتتعطل أشغال تعبيد الطريق اليومي الذي يمر منه أو أشغال الإنارة به أو خدمات التزويد المنتظم بالماء والكهرباء والغاز والربط بالانترنت، وقد تتعثر خدمات رفع القمامة وتصريف المياه المستعملة في الحالات الاعتيادية فضلا عن حالات الكوارث حيث يصبح محل إقامته مهددا باستمرار فيشعر بعدم الأمن والأمان فيظل متوترا باستمرار متحفزا إلى التنقل باستمرار باعتباره مطلبا ينشد ولا يدرك في إطار هذا النوع الأول من التموقع الاجتماعي.

 

     أما إن كان هذا المواطن له قرين وله أبناء وله عائلة فإن الإرتباط بالواقع الاجتماعي المحلي يصبح شديد التشابك وعميق الترابط والتبادل وستضاف علاقات التربية ما قبل المدرسية والمدرسة والصحة الأساسية وسيظل المواطن بمواصفات التموقع الاول ملاحقا لتبعات تشكل الواقع الذي صيغ على مقاسات الآخرين فليس له إلا أن يكون تابعا  مصطدما بالمفاجآت في كل حين يعمل على تعديل حياته باستمرار حتى تتلاءم مع الترتيبات المستحدثة فيخسر الوقت والمال. سيمتثل هذا المواطن لقانون السوق الأسبوعية في حيه بما يحتويه من فوضى تعمه وبالسرقات في المكاييل والموازين وغلاء الأثمان دون موجب وستعترضه الإنتصابات الفوضوية التي تتاجر بمواد غير مراقبة صحيا لأن أصحابها يخضعون لحماية خفية وخاصة بموجب تبادل الخدمات المصلحية بين الأطراف التي شكلت ذلك الواقع.

 

     وليس خفيا القول بأن التجمع الدستوري الديمقراطي ممثلا في حضوره المحلي الحزبي والإداري والبلدي هو الذي كان الفاعل الأوحد في صياغة هذا الواقع  وتشكيله لفائدته بامتياز من خلال شبكاته المتداخلة بن الحزب والدولة داخل الولايات والإدارات ولجان التنسيق والبلديات والمعتمديات والشعب والعمد وغيرها من الهياكل ذات الارتباط والتي هيأت لواقع الإقصاء ورتبت لرهانات الإنتهازيين والمتسلقين تحت عناوين مختلفة.

 

     ولا يختلف المشهد الاقتصادي والتجاري المحلي عن هذا الارتهان بل هو في صميم رهان التجمع من القيادة الأحادية. فالأكشاك والمقاهي والمساحات العمومية التي تم التفويت فيها والامتيازات الخاصة التي تمتع بها البعض في التهرب من الجباية وإسقاط المراقبة البلدية أو الاستفادة من مشاريع وهمية، أو انجاز مشاريع غير ذات جدوى أو غير مطابقة للمواصفات الفنية ، وعمليات تحويل الأموال تحت عناوين مختلفة للقيام بشراءات غير متأكدة أو شراءات دون معايير الجودة من مزودين محددين لهم ولاءات مصلحية مع الفاعلين الذين صاغوا الواقع المحلي ، كل ذلك نتاجا لهذا الشكل من العلاقة التي انتهت باستغلال مقدرات الواقع المحلي وموارده لفائدة رهاناتهم الخاصة.

 

     التموقع الثاني للمواطن في محيطه المحلي هو تموقع المشاركة في صياغة هذا الواقع تخطيطا وبرمجة وانجازا وتمثلا وتجسيدا وإخراجا وهو ما أسميه بالمواطنة . وتحقيق التموقع الثاني بعنوان المواطنة لن يتم إلا بإزاحة هذا التمكن السابق وإبعاد السيطرة المطلقة للتجمع الدستوري الديمقراطي وشبكته العلائقية المهيمنة لفسح المجال أمام التعبيرات الطبيعية للواقع المحلي والبحث عن التوازنات الاجتماعية النابعة من إرادة كل مكونات الواقع والجامعة له.

 

     أما فكرة الإقصاء فقد تم طرحها بشكل غير واقعي في كثير من الأحيان وتلقفها الإعلام ليشتغل بها في أهم الواجهات السياسية بعد اعلان الهيأة العليا لحماية الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي عن المادة 15 المتعلقة بالترشح لعضوية المجلس التأسيسي. والمصطلح " إقصاء " يحمل في حد ذاته دلالات سلبية وشحنات تجمع عناصر انفعالية تنتهي بترجيح رفض الموضوع المضاف دون تمعن في الرابط المنطقي بينهما. وحين يستعمل المصطلح وسط مناخ علائقي متوتر فإن آثاره تكون أكثر وقعا وحدة وأكثر تجييشا للمشاعر والأحاسيس العدائية والصدامية.

 

     وعبارة "إقصاء التجمعيين" تندرج وفق هذا التحليل لأن هذا التركيب اللفظي وما يصاحبه من معنى لا يستقيم بحسب الدلالات والسياقات الجديدة بعد الثورة التونسية التي تفرض قيما جديدة لتحقيق المواطنة بالتموقع الثاني الذي تم عرضه، ويمكن الاستدلال على ذلك من أوجه عديدة ومن أهمها:

 

     1-  إن التجمع الدستوري الديمقراطي كحزب سياسي تم حله بموجب حكم قضائي بات ونهائي بسبب مخالفة أنشطته للقانون وبالتالي لم يعد للتجمع أي اعتبار مادي أو معنوي أو قانوني أو على أرض الواقع بحيث أن الصفة التجمعية تسقط مباشرة عن الأفراد الذين كانوا يعملون تحت هذا المسمى وينتظر المجتمع من هؤلاء إما التبرأ من هذه الصفة والإعتذار للشعب عن الضرر الذي حصل أو التعنت والإصرار على حمل تلك الصفة وتحمل تبعاتها القانونية والجزائية تبعا لذلك. وفي الحالة الأولى فنحن نتحدث عن أفراد أو تشكلات جديدة لأفراد كانوا يحملون صفات تجمعية ونزعت منهم تلك الصفة بمقتضى القانون.

 

     2-  الوجه الثاني هو أن التجمع الدستوري الديمقراطي حين استحوذ على النشاط السياسي بالبلاد طيلة أكثر من خمسة عقود تحت مسميات عديدة، استطاع أن يشكل الواقع في صياغة خاصة ومن أهم خاصيات هذا التشكل هو تكوين رصيد مالي ومادي ورمزي لفائدة أفراده ولفائدة الأطراف المتعاونة معه. وهذا الرصيد هو مكسب متحقق لا ينمحي بمجرد انتزاع الصفة التجمعية عن الأفراد بل يظل قائما لأنه يتجسد في صورة مصالح وعلاقات وشبكات من الخدمات المتبادلة وأرصدة مادية ومالية تكونت ونمت بمقتضى الانتساب للتجمع ومن خلال نشاطه.

 

     السؤال المطروح تبعا لذلك هو : كيف يمكن محاسبة التجمع الدستوري الديمقراطي على هذا الرصيد غير الشرعي بمقتضى سلوك الهيمنة والإقصاء الذي مارسه، والذي أقر الجميع اليوم بأنه كان سببا في تأخرنا السياسي وكان غطاء على عمليات النهب الممنهجة تجاه مقدرات الشعب والوطن؟  وكيف يمكن سحب هذا الرصيد غير الشرعي من أولئك الأفراد الذين استفادوا وأثروا في إطار هذه الوضعيات التي حاكها التجمع بمقتضى القانون؟( نحن هنا لم نتحدث عن بعد عن السرقات والتجاوزات المباشرة المخالفة للقانون بشكل صريح ، فتلك القضايا معلومة ويجب أن يحاسب فيها كل مخالف وأن يأخذ القانون مجراه تجاهها).

 

     ويبدو أن تبعات هذا السؤال أخطر بكثير ،على أولئك الأفراد الذين يطالبون بالترشح، مما مورس تجاههم تحت عنوان الإقصاء . ونظرا لأن القضاء لا يستطيع في هذا الحيز الزمني المتاح توفير الإجابة الإجرائية على مثل هذه التبعات ، فإن الطبقة السياسية ارتأت أن يتحمل الفاعلون السياسيون في التجمع المسؤولية السياسية لأزمة الواقع وما لحق به، وأن يتم ابعاد هؤلاء بشكل مؤقت عن الفعل السياسي القيادي حتى يستعيد المشهد من المنافسة السياسية توازنه الطبيعي .

 

     إن الأمثلة الميدانية على منطق هذا التحليل عديدة ويمكن أن نبرهن عليه من خلال مثالين اثنين مستمدان من التجربة الشخصية يؤكدان صدق نتائجها .

 

     المثال الأول يتعلق بالحصول على خطط إدارية صلب الوظيفة العمومية ومؤسسات الدولة. وما هو معلوم أن إسناد تلك الخطط (رئيس مصلحة ، كاهية مدير، مدير، مدير عام ...) يخضع إلى ملف إداري يستوجب الإحالة إلى وزارة الداخلية لإبداء الرأي الملزم بعد أن يمر بمصفاة أولى بموجب التراتب الإداري بدء بالرئيس المباشر وصولا إلى رئيس المؤسسة متمثلا في المدير العام أو في الوزير. وجميع هذه المستويات خضعت في تكونها لنفس آلية الترشح والتصفية وهي لن تعيد في تطورها إلا انتاج نفسها وإنتاج صورها ممثلة في المتماهين مع سياستهم ولونهم الحزبي في غالب الأحيان( راجع تدخلات الشعب المهنية بالمؤسسات الإدارية) . وعند وصول الملف الإداري  إلى وزارة الداخلية تتقاطع المعلومات الاستخبارية والوشائية داخل المؤسسة وخارجها على المستوى الترابي وتنتهي بقرار من الصعب جدا أن يكون لصالح مواطن بمقتضى متطلبات الدور الاجتماعي للتموقع من الصنف الثاني الذي أشرنا إليه من قبل.( نحن هنا لا نتحدث عن عشرات الآلاف الذين أطردوا من الوظيفة العمومية بسبب لونهم السياسي المخالف فحسب بل وأيضا الذين بقوا داخل الإدارة دون لون سياسي). ولسنا في حاجة هنا إلى اثبات أن الحصول على مهمة إدارية أو ترأس إدارة مؤسسة كان يعتمد بالأساس على تزكية من التجمع الدستوري الديمقراطي الذي يهب النزاهة لمن يشاء وينزع الوطنية ممن يشاء بيده الحل والعقد وهو على ذلك قدير.

 

     إن أكثر من خمسين سنة من العمل الإداري بالمؤسسات الرسمية في تونس وسط علاقة متينة بين الحزب والدولة سوف لن تنتج سوى شبكة من العلاقات النافذة في الإدارة التي استغلت وجودها بالتمتع بالترقيات وبالحصول على موارد لتوجيهها وجهات معينة لن تكون حتما بعيدة عن مصالح رهاناتهم ورهانات الدوائر التي ركزوها بفضل أدائهم وشبكة علاقاتهم. ولم تكن الكفاءة إن وجدت إلا العنوان الثاني بعد الولاء الحزبي مما أدى إلى تداعيات كثيرة السلبية على الإدارة وعلى تقزيم دورها في قيادة التنمية بالبلاد.

    

     فكيف يمكننا اليوم استرداد الأموال التي تحصل عليها كل من تحمل مهمة إدارية أو ترأس إدارة عمومية على إثر تزكية التجمع في إطار غير تنافسي فيه اقصاء وتغيب فيه الكفاءة؟ وكيف تنتزع الموارد التي تمتع بها هؤلاء طيلة الفترة السابقة والموارد التي وفروها في إطار علاقاتهم القائمة على الولاء الحزبي والتي حرم منها من هو مخالف لها؟.

 

     إن هذا النوع من المحاسبة رغم تشدده فإنه يعتبر الأقرب إلى إعطاء كل ذي حق حقه وهو المدخل الرئيسي لإعادة ترتيب البيت السياسي والثروة الوطنية على أساس تساوي الجميع في الفرص دون استثناء وبشكل شفاف.

 

     ومن هذه الوجهة يبدو أن المطالبة بإبعاد الرموز والفاعلين الذين تحملوا مسؤولية بالتجمع الدستوري الديمقراطي من الترشح، لا يعتبر إقصاء من الحياة السياسية ، حيث لا تصح هذه العبارة سياقيا ودلاليا، بل هو تنظيم للحياة السياسية على أساس العدالة والمساواة والتوازن وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، ويعتبر هذا التوجه أرقى أشكال المحاسبة لأنه لم يطالب بتلك الحقوق التي أثرناها وإنما تنازل عنها لفائدة المسؤولية السياسية وهو اجراء ، حسب رأيي، وقتي غير دائم إلى حد استرجاع التوازن الطبيعي للعلاقات الاجتماعية وتبعاتها المادية والرمزية.

 

    المثال الثاني يتعلق بتشخيص وقائع على مستوى محلي ويتعلق باستيلاء شعبة للتجمع الدستوري الديمقراطي على مؤسسة شبابية بمنطقة خزندار من مدينة باردو. امتد هذا الإستيلاء على المقر المذكور دون وجه قانوني لمدة تفوق الثلاثين سنة والمقر هو عبارة عن امتداد لدار الشباب مساحته المغطاة تقدر 200 متر مربع كما يتوفر على مساحة خلفية مكشوفة بـ100 متر مربع وأخرى أمامية مساحتها 800متر مربع (القياس تقديري) تحتوي على حديقة واسعة وجميعها مسيج بسياج المؤسسة الأصلية التي هي دار الشباب.وتقع هذه البناية ككل في موقع استراتيجي هام يحاذي المعهد الثانوي بباردو ويقابله بشكل مباشر محطة للمترو الخفيف بحيث أن قيمة المتر المربع لا يتصور أن يقل عن 400 دينار (راجع صور الفيديو لهذه المؤسسة على الروابط التالية:

http://www.dailymotion.com/video/xijfmz_mhk-publication4_news

http://www.dailymotion.com/video/xijfve_mhk-production5_news

http://www.dailymotion.com/video/xijfw6_mhk-production6_news

http://www.dailymotion.com/video/xijfwo_mhk-production7_news).

 

     فإذا أردنا المحاسبة المالية فما هي التعويضات التي تستوجب من الشعبة الترابية لفائدة دار الشباب وشباب المنطقة لفترة زمنية تفوق الثلاثين سنة؟ وإذا أضفنا إلى قيمة الاستغلال قيمة الخدمات الأخرى التي انتفعت بها الشعبة المذكورة دون دفع مقابل مثل معاليم استغلال الماء والكهرباء إضافة لاستغلال بعض الأثاث الذي يجلب من دار الشباب عند الاجتماعات فضلا على استغلال القاعة الكبرى في المناسبات السياسية التعبوية وهي ليست بالقليلة، فإن محصلة المحاسبة ستكون كبيرة جدا.

 

    أما الأضرار الأخرى الجانبية التي حصلت نتيجة هذا التواجد غير القانوني والنزعة التسلطية للحزب الواحد على الدولة والمجتمع، فيمكن ملامستها على مستوى رواد المؤسسة الشبابية والأنشطة والبرمجة وتأثير ذلك على نسبة الإقبال والتردد على المؤسسة الشبابية وتأثيره أيضا على الحياة الشبابية بالجهة ككل، وهو ضرر أقره كل العاملين في قطاع الشباب المنشطين منهم والمديرين والمتفقدين على السواء ولم تتم الاستجابة له بأي شكل من الأشكال رغم أن هذه الحالة لها ما يماثلها في أغلب الولايات بالبلاد التونسية.

 

     إن المحاسبة بهذا الشكل ستكون عسيرة على كل من اشتغل بهذه الشعبة وعقد فيها اجتماعا حزبيا وعلى كل من سهر بداخلها الليالي من "الشرفاء" و" رجال اليقظة"  من أجل المراقبة وكتابة التقارير والوشاية وتعطيل حركة الشباب وضرب حرية التعبير والإنتاج الفني والابداع.

 

     لقد أحرق شباب الثورة كل مراكز التجمع الدستوري الديمقراطي تقريبا وتعاظم الغضب الشعبي ضد المقر المركزي له بتونس وتشكل رأي عام ثوري يقطع مع هذه التركة التاريخية لأنها دائرة الحمى الأولى التي أمنت للفاعلين سلب مقدرات البلاد ونهبها وتهميش فئاتها اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.

 

     ألا يحق بعد هذا أن يعتذر أولئك على أقوالهم وأفعالهم وأن يتراجعوا ولوا في هذه الفترة الانتقالية المهمة على درب صناعة الحرية والديمقراطية؟ أليس من الحياء السياسي أن يتراجعوا عن المطالبة بالقيادة السياسية بعد كل ما جرى وتم الكشف عنه؟ أليس من المخاطرة أن يستعيدوا الظهور في هذه المرحلة خشية أن تقع مطالبتهم بمحاكمة شعبية ؟ ألا تعتبر عودتهم للنشاط المحلي البلدي بالمجالس البلدية التي أقرها بعض الولاة ( ومنهم والي تونس : بلدية باردو) استفزازا للمواطنين وارباكا للديمقراطية المحلية الناشئة؟ ألا تعتبر مشاركتهم توظيفا لمكاسب غير مشروعة والدخول إلى اللعبة الديمقراطية من باب المسك بأطرافها وبخيوطها الأساسية وهو ما تفتقده الأطراف الأخرى نتيجة اقصائها المستمر سابقا؟

 

     لا تزال إدارة الحكومة المؤقتة تبادر بممارسات مربكة للمسار الديمقراطي الذي نادت به جميع القوى بالبلاد، فلا يعقل مثلا أن يتم تنصيب مجالس بلدية دون العودة إلى التشكلات الجديدة الناشة على إثر الثورة، ومنها المجالس المحلية للثورة. فعدم وجود شرعية الانتخاب لا يبرر مطلقا اللجوء إلى التنصيب لأنها ممارسة لم يعد الواقع المحلي يستوعبها ولا يسمح بوجودها. وتؤكد ملاحظاتي الميدانية أن المجالس المحلية للثورة تشكلت برغبة من فاعلين جدد كانوا مهمشين وتم تطوير رآهم في المشاركة المحلية على إثر حوارات ونقاشات وأغلبهم انتهى إلى إقرار صيغ توافقية في انتظار أن تقول صناديق الإقتراع كلمتها. فلا أحد منهم على حد علمي يقر بالشرعية ولكنهم جميعا توحدوا على ضرورة المشاركة بالتوافق الذي يجمع أطرافا مختلفة المشارب ومنهم المستقلين والكفاءات المحلية التي قد تدفع إلى تطوير الواقع المحلي بامتياز.

 

     إن الاستفزاز يولد ردود الأفعال وهو ما حدث فعلا من خلال اللقاء الذي أعدته قوى المجالس المحلية للثورة أمام المسرح البلدي بتاريخ 24 أفريل 2011 مطالبين بإلغاء القائمات المنصبة وإبعاد رموز التجمع منها. فلماذا يتم التغاضي عن هذه المطالب بالرغم أنها المدخل الطبيعي لتطوير حياة المواطنة؟ لماذا يوهم والي تونس مثلا بأنه متفهم لهذه المبادرات ومستعد لقبولها بينما يفاجئ الجميع بقائمة لم يستشر فيها أي أحد من التشكلات الجديدة المحلية؟ هل ينتظر الوالي أن يحظى أولئك المنصبون بترحاب محلي؟

              

        (الأحد 24 أفريل أمام مقر المسرح البلدي بتونس)

 

     النتائج تؤكد عكس ذلك لأن المواطنين أنتجوا أشكالا للدفاع عن حقهم في المشاركة ولو كانت مؤقتة، وهو ما حصل فعليا بمدينة باردو كما تظهره الصور المعروضة التالية:

 


                               (الخميس 28 أفريل أمام مقر معتمدية باردو)

 

     لقد وضع الوالي بتصرفه اللامسؤول هذا، المدينة في مسار تصادمي وخلق أزمات إضافية على مستوى العلاقات داخل الواقع المحلي وأربك النشاط الإداري نفسه لأن معتمد جهة باردو اختفى من مقره بالمعتمدية على اثر قيام الاحتجاجات المطالبة برحيل بقايا التجمع ونادى الجميع بـ" بلدية مستقلة والتجمع على برة" كما نادوا بضرورة احترام حق المواطنة في المشاركة المحلية عن طريق ممارسات ديمقراطية فيها قدر من التوافق على الأقل في هذه الفترة الانتقالية الحرجة. ثم تترك بعدها الكلمة للشرعية التي تفرزها صناديق الاقتراع.

 

     يبدو أن الشبكات الجديدة التي لا ترى لها مصلحة في الإستقرار، أو الشبكات التي وجدت مصالحها في إطار الفوضى ، أو الشبكات القديمة الماسكة بدواليب الحياة المحلية،  لم يقع تفكيكها بعد إثر الثورة، وأثناء المسارات الحالية، وقد عانت البلاد كثيرا هذه الأيام وما قبلها من الممارسات المحلية التي تخلق بؤر توتر كبيرة على المستوى الأمني والاجتماعي وليس من المستبعد كثيرا أن تكون تلك الشبكات هي التي تدفع بشكل أو بآخر لتأجيج الخلافات وتغذيتها والرفع من حدتها في سياق ما توفر من حرية وغياب الدولة والسلط الشرعية المرجعية. ومثال ذلك إضرابات أعوان البلديات المتكررة في المناطق الحضرية. والمعلوم لدى الجميع أن المجالس البلدية يسيطر عليها التجمع منذ عقود ، ودون الدخول في شرعية المطالب التي ينادي بها أعوان البلدية وحقوقهم المشروعة في الأجر المحترم والترسيم، فإن عدم إزالة الفضلات ورفعها سبب خللا جوهريا بالحياة المدنية إضافة إلى مخلفات ذلك من الناحية الصحية المباشرة الآنية والآجلة التي خلقت بيئة حاضنة لانتشار الحشرات والأوبئة مع ارتفاع الحرارة وقدوم فصل الصيف. فكيف يصر هؤلاء على تحقيق مطالب بشكل متواصل ومفتوح في إطار هذه المرحلة الانتقالية مهددين بذلك الأمن الصحي للمواطن ورافعين سقف الفوضى والذعر العام إلى مستوى نوعي آخر.

 

     أما إضرابات أعوان الأمن وأعوان السجون والإصلاح فهي الكارثة النوعية الأخرى التي ليس فيها أي منطق وطني. لقد كان أعوان الأمن هم أول المستفيدين من الثورة من خلال الترفيع في أجورهم اعترافا من الدولة و من المجتمع بأهمية دور الأمن في البلاد في حفظ الحياة ومقوماتها ، إلا أن الابتعاد عن مراكز العمل وعدم التفطن إلى أهمية الرفع من الدرجة الأمنية في حراسة المؤسسات السجنية يطرح تساؤلات كثيرة حول تلك الممارسات خاصة إذا كانت تتم في أوقات متقاربة .

   

     إن نتائج هذه الممارسات وتلك التي أشرنا إليها سابقا تؤدي بالضرورة إلى مزيد نشر الفوضى بالبلاد وتجعلنا نرجح الفكرة التي أشار إليه القاضي فرحات الراجحي من وجود صف خفي يدير شؤون البلاد ويدفعها في إطار مسارات مضادة لأهداف الثورة وخاصة منها تلك التي تكبل الواقع المحلي وتشدد على مواصلة الشبكات القديمة مسكها للواقع وعدم السماح بالتفريط فيه بأي شكل من الأشكال حتى وإن أدى ذلك إلى حمامات من الدم حسب تعبير بعضهم. وقد أشرنا في تحليل سابق إلى أنه كلما وجد عدم وضوح في المشروع السياسي إلا وانفجرت بؤر الغضب في أشكال عديدة وهو ما حدث فعليا على إثر تصريحات فرحات الراجحي في بداية الأسبوع الأول من شهر ماي الجاري. ولم يكن الراجحي سوى المعبر الصادق عما يجري من حيرة داخلية بين الفئات الاجتماعية.

 

     إن مرحلة ما بعد الثورة في تونس خضعت إلى انفجارات متعددة الأقطاب لم تعد الآليات السياسية القديمة قادرة على مواكبتها وفهمها واستيعابها كما أن الخطابات الجوفاء التي لا تحمل أثرا ملموسا لم تعد تلبي الاحتياجات لمرحلة ما بعد 14 جانفي، وإن كان لا بد لأي مشروع يريد الاستقرار والتقدم في تحقيق أهداف الثورة فلا بد أن يكون فيه البعد المحلي حاضرا  ومقوما لأي خطاب أو فعل سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي في إطار بناء مواطنة الوفاق تكون فاعلة ومسؤولة عن محيطها ، صانعة لأقدارها بإرادتها، دون أياد خفية تحركها، و يجد فيها الجميع موقعا ودورا.

 

إعداد: محمد الحبيب الخضراوي، أستاذ العلوم الثقافية بالجامعة التونسية

 9-5-2011

 

 

 

 



10/05/2011
0 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres