Sciences du Patrimoine

Sciences du Patrimoine

الثورة التونسية: هل هي ثورة بلا رأس؟

 

 

الثورة التونسية: هل هي ثورة بلا رأس؟

بتاريخ: 25-01-2011

 

 

 

 حول مواصفات الثورة التونسية وأسبابها ومكامن قوتها يمكن أن أقول : كثيرة هي الأفكار والمواقف التي برزت  على الساحة الإعلامية والفكرية في تونس وخارج تونس لتصف الأحداث التي جرت بأنها ثورة بلا رأس، واستعمل هذا الإصطلاح في عديد الخطابات ذات المرجعيات المختلفة والمتباينة والتي تتضمن لدى فاعليها ومنتجيها استراتيجيات مختلفة أيضا ومتباينة. فهل يمكن أن نصف الثورة التونسية بأنها فعلا ثورة بلا رأس؟ وما هي الرهانات التي تطرح في مثل هذه الإستعمالات الاصطلاحية؟

         

لا بد أولا من الإنطلاق من أرضية مشتركة في التحليل للوضع القائم باعتبار أن ما حدث في تونس هو ثورة حقيقية بكل ما يحمله هذا المصطلح من دلالات تفيد القفزة النوعية والتطور النوعي في الواقع والتعاطي معه اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.( راجع مقالنا بعنوان : يحدث في تونس: أزمة أم انتفاضة أم ثورة، المصطلح والواقع من يصحح ماذا؟ بتاريخ 17 جانفي 2011. https://khadhraoui.blog4ever.com/blog/index-462502.html  ).

 

 

هذا المنطلق يسمح لنا بمساءلة الاستعمالات اللاحقة التي تصف الثورة وتحاول أن تفهم منطقها ومن هذه الاستعمالات  أن الثورة التونسية هي ثورة بلا رأس.  وينبني هذا الإستعمال على معطيات الملاحظة الميدانية التي رصدت التحركات الاحتجاجية بداية من منتصف ديسمبر إلى اليوم (نشير هنا إلى أن الثورة لم تنته بل لا تزال بصدد التبلور )، حيث  بينت تلك الإحتجاجات بكل وضوح غياب لون سياسي أو فكري معين، فالشعارات التي رفعت أثناء المظاهرات لم تكن تحمل إلا المطالب الجماعية سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية ، وما أن ينادي صوت بمطلب لون فكري محدد نتيجة الشعور بالغبن والقهر المسلط عليه ، إلا والتفت الجماهير على هذا الصوت ليحل محله الصوت الجماعي بكل هدوء، وهذا ما وقع فعليا في كامل مدن الجمهورية حيث المظاهرات الصاخبة ومنها مظاهرات صفاقس والعاصمة يوم 14 جانفي.

 

ومما يؤكد أيضا أن الثورة هي بلا رأس هو فشل القناصة المسلحين الذين تم  توظيفهم لقطع رؤوس الثورة، فالقناصة بدى عليهم الإضطراب واضحا فلم يجدوا رأسا محددا لضربه، لذلك كانت الإصابات في صفوف المتظاهرين عشوائية ومتنوعة، فمنهم الرجل ومنهم المرأة ومنهم العاطل ومنهم الذي يشتغل ومنهم صاحب الشهادة العلمية ومنهم الأستاذ الجامعي ومنهم الأمي ومنهم الشاب ومنهم الرضيع ومنهم المسن.

 

هذا هو مشهد الشهداء الذين سقطوا في الثورة التونسية وهو مشهد متعدد ومتنوع ليس فيه غلبة لجهة دون أخرى وهو على تلك الصفات تمكن من الإفلات عن محاولات وأد الثورة وإرباكها وإجهاضها وإخمادها. ولان الثورة لم تحمل رأسا معينا فإنها نجحت في التصدي للخطط الأمنية والبوليسية التي تم اعدادها وتجهيزها للقمع السياسي والاجتماعي فالثورة اختلقت سلاحا مضادا فاعلا وناجعا ضد الهجمات البوليسية وأسلحتها الفتاكة.

 

لقد توقع النظام السياسي والبوليسي قبل الثورة أن تقوم الاحتجاجات من أبواب محددة فجهز كل قدراته وخططه الإعلامية والسياسية والأمنية لضرب هذه الأبواب وتحطيمها إن لزم الأمر والتعامل معها بكل حزم، وبكل حزم، وليس أدل على ذلك من الإصطلاحات التي برزت في خطاب الرئيس السابق وتكررت مرارا ثم رددتها أجهزة الإعلام الرسمية وأبواق الدعاية السياسية في بداية الثورة ، ومن هذه الإصطلاحات : الإرهابيون والمجرمون المخربون والتعامل مع أطراف أجنبية وأخبار مغرضة من قناة الجزيرة.

 

 

لكن واقع الثورة فند كل تلك المقومات ولم يصدق أحد مثل هذه الاستعمالات التي وصفت الاحتجاجات وكانت رؤوسا هدفا للضرب والقمع والإغتيال . وحين توجه القناصة للقتل لم يجدوا رؤوسا ليقطفوها ولم يجدوا ألوانا ليمحوها بل كانت طلقاتهم تؤكد عماهم عن الرؤية وتبين الفوضى التي لحقت بهم وكانت سببا في فشلهم.

يؤكد هذا الجزء الأول من التحليل أن الثورة التونسية هي فعلا بلا رأس وأن مقوما أساسيا في قوتها هو صفتها تلك التي كانت سلاحا مضادا ناجعا وفعالا ساهمت في انتشار الثورة وتعميمها واستدامتها وحشدها للطاقات البشرية بكل أطيافها.


 

ثورة عدد رؤوسها بحساب محموع عدد الثائرين

 

الجزء الثاني من التحليل يطرح التساؤل التالي: هل أن الثورة التونسية هي فعلا بلا رأس؟ أم أنها ثورة برؤوس عديدة وأن عدد رؤوسها هو بعدد مجموع رؤوس الثائرين وتعاضدهم؟

 

إن الجزء الأول من التحليل يفيد بأن الثورة لم تكن تحمل رأسا ماديا محددا يمكن استهدافه لتخمد الثورة وتنتهي، إلا أننا في الجزء الثاني سنبين أن عدد رؤوس الثورة يساوي مجموع رؤوس الثائرين مع ما يضيفه هذا المجموع من قوة ضاعفت من قدرات الرؤوس الفردية وخبراتها.

 

 

لقد اكتنزت الثورة خبرات المجموعة عبر التاريخ واستثمرت تراكم التاريخ الإجتماعي للتجربة التونسية على مدى قرون وسنين ولم يكن هذا الأداء الفريد للثورة رهين المعطى الحيني أو يدخل ضمن ما يروج له البعض من أنه ثورة عفوية . فالعفوية والصدف لا يمكن أن تنتج ثورات بل إن الطبيعة سواء منها المادية أو الإقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية تسير وفق قوانين مضبوطة معلومة وحتى إن لم نعلمها فلا يعني أنها ليست موجودة، بل إن ذلك يعود لجهلنا بهذه القوانين التي تخضع بالضرورة إلى تقاطع سياق موضعي مع سياق تاريخي ممتد عبر الزمن.

 

وفي هذا الإطار  يمتد التحليل بنا إلى التاريخ البعيد ، القديم والوسيط والحديث، لكننا بحكم ضيق الوقت المتاح لإنتاج مثل التحاليل ارتأينا أن نركز فقط على بعض الفترات من التاريخ القريب أي المعاصر الذي نلاحظ استثماره بوضوح من قبل الثورة وعززت به من مقومات أدائها.

 

 

لقد استثمرت هذه الثورة أحداث ثورة الخبز في جانفي 1984 التي ثارت فيها الجماهير على ثمن الخبز ومشتقات الحبوب وبمجرد إعلان بورقيبة عن التراجع في الأسعار خمدت الثورة وعادت الجماهير تهلل وتكبر لحياة الزعيم، و بناء على ذلك  لم تنادي الثورة التونسية الحالية بشيء محدد ومعين بل طالبت بالتغيير الجذري لكل ما هو  موجود على أرض الواقع لأنه أصبح في حالة من التردي لا يسمح بمواصلة الحياة على الوجه الكريم. ولم تتراجع الثورة بمجرد الإعلان عن تخفيض أثمان الخبز والحليب وغيرها بل زاد ذلك في تأجيجها وثورانها.

 

 

استثمرت هذه الثورة انقلاب سبعة نوفمبر وخدعة الميثاق الوطني وإعادة تسمية الحزب الإشتراكي الدستوري إلى التجمع الدستوري الديمقراطي حيث تواصل الأداء السلبي بعد الإنفراج الوهمي وتم التسلط على الدولة وعلى المجتمع، فما كان من الثورة الحالية إلا أن رفضت كل المسرحيات المعلنة والخطابات الجوفاء والوعود الزائفة، فلم تهدأ الثورة إلى حد كتابة هذا المقال للمطالبة بحل التجمع الدستوري الديمقراطي وعدم الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية التي تضم أغلبية عناصرها  من التجمع وعناصر الفساد السبب الرئيس في تردي الأوضاع.

 

 

استثمرت هذه الثورة البطش والانتقام الذي يلحقه النظام حين يتم الإستفراد به ، وهذا ما وقع للإسلاميين وحركة النهضة في فترة التسعينات وعانى منها أيضا اليساريون كثيرا ومناضلي حقوق الإنسان. وقد تكرر هذا الإستفراد بطرف في أكثر من مشهد وآخرها ما وقع لأهالي الحوض المنجمي وأهالي مدينة بن قردان بالجنوب التونسي. فلم تهدأ الثورة لأن جميع فاعليها على وعي تام بأن التراخي والتراجع في الصمود هو باب للهزيمة وأن التوقف عن التظاهر والإحتجاج هو فتح الباب على مصراعيه للإنتقام والترويع والتنكيل والتخوين وغيرها من الممارسات القمعية التي يعلمها الشعب التونسي ويعرفها معرفة جيدة وعانت ويلاتها العائلاتها على كامل تراب الجمهورية.

 

 

لقد استثمرت الثورة التونسية كل هذا وذاك على مر التاريخ المعاصر وعبرت في أدائها عن فهمها واستيعابها دروس الماضي فانتظرت الشرارة التي أودعها محمد البوعزيزي في هذا الشعب بدءا بجسده لتندلع الثورة فيما بعد وتكتسح كامل أرجاء البلاد وهي تختزل كل تلك الدلالات من خلال هذا الوعي الجمعي لتراكم التجربة التونسية في مختلف أبعادها. وعليه فإن الثورة تسلحت بجميع تلك الرؤوس على مر التاريخ وتسلحت بهذا الوعي المشترك. وجميع تلك الدلالات التي يمكن ملاحظتها كانت مترجمة في أشكال التظاهر أثناء الثورة والممارسات المصاحبة لها.

 

 

صناعة الرموز

 

 

بناء على القراءة الأولى التي تركز على أن الثورة ليس لها رأس، تحركت عديد الرهانات لتعمل على صناعة الرموز التي تريد أن تتصدر المشهد السياسي لكسب المعركة الانتخابية المنتظرة قريبا والبحث عن التموقع بشكل ما في المواقع الأمامية داخل هذا المشهد. وقد ظهرت بعض البوادر البراغماتية في ذلك تركزت أساسا وأولا في وزراء المعارضة سابقا داخل حكومة الوحدة الوطنية وهم وزراء التعليم العالي والتنمية الجهوية والتربية والتعليم. وبعض رموز المعارضة اليسارية وتساهم وسائل الإعلام هي بدورها في هذه الحملة الخفية سواء بدعم هذا أو ذاك أو تسريب رهانات جديدة ومنها قناة حنبعل التي قدمت مديرها في إخراج مسرحي شاركت فيه أطراف عدة باعتباره الرجل الذي يحبه أكثر من خمسة ملايين تونسي.

 

 

إن المراهنة على اعتبار أن الثورة كانت عفوية وأنها كانت دون رأس مدبر هو خطئ جسيم في قراءة وتحليل الثورة التونسية وعليه فإن الهرولة نحو إنتاج الزعامات والرموز سيجد أمامه منطق الوعي الجمعي وسيصطدم بالأبعاد الرمزية المتراكمة عبر التاريخ .

 

 

محمد الحبيب الخضراوي

الثلاثاء 25 جانفي 2011.

 

 

 

 

 

 



25/01/2011
1 Poster un commentaire
Ces blogs de Politique & Société pourraient vous intéresser

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 8 autres membres